وجيهة عبد الرحمن
منذ أيام أنا أعمل على توطين نفسي للاعتياد مرة أخرى على دخول الصفوف المدرسية، بعد أن تركتها منذ اثني عشر عاماً، حين أعلنت لمعاون وزير التربية، وبكل شفافية أنني لم أعد قادرة على التواصل مع الطلاب من جانب التدريس، الأمر الذي دفعني للتقدم إليه وإلى جهات رسمية أخرى ونتيجة مرض ألمَّ بي، لأحصل منهم جميعا على الموافقة بتكليفي للقيام بأعمال إدارية في المدارس، بالفعل حصلت على الموافقة، ومنذ عام 2002 وأنا أعمل بصفة أمينة مكتبة في مدارس مدينة الحسكة.
ولكن الأحوال تتغير، فمنذ بدء الثورة السورية ووتيرة الأحداث متسارعة والتغيرات في تصاعد، المزيد من القتل والتشريد والتهجير، والاعتقالات المتاحة في كل زمان ومكان، ومن قبل كل من نصَّب نفسه وصياً شرعياً أوراعياً لقطار الثورة الذي حرفوه عن سكَّته، ليخرج عن مساره إلى ما لايعلمه إلا الله.
تغيرت الأحوال ونزحتُ مع كل الذين نزحوا، الآن وبعد مضي خمسة أشهر لازلت أبحث في مدينة غازي عنتاب، على عمل إلى جانب ما أكتبه من مقالات في العديد من المجلات والجرائد السورية، التي أفرزتها الثورة وحالة النزوح، والبعض من المجلات الخليجية.
أخيراً وبتكليف من جمعية بلبل زادة وبالتعاون مع مديرية التربية التركية في مدينة غازي عنتاب حصلت على وظيفة، سأعمل مع مجموعة من المعلمين والمدرِّسين الاختصاصيين في تعليم أطفال سوريا. عدت القهقرى إلى وضع كنت قد اشتكيتُ منه، فأنا لم أكن على الدوام أهلاً للتعليم، بل أستطيع التواصل الحرَّ دون قيدٍ أو شرط، والعمل على الإرشاد والتوعية، هذا ما كنت أجد نفسي قادرة عليه.
جمعية بلبل زادة منذ فترة قصيرة افتتحت سلسلة من المدارس،تحت عنوان منبر الشام، من أجل إيواء أطفال سوريا، الذين قذفت بهم الثورة إلى الشوارع والدروب أسكنتهم الخيام.
اليوم الأول من الدوام في المدرسة كان مرعبا جداً، إذ أنني كنت قد أقسمت على ألا أعود إلى الصفوف التي هجرتها بمحض إرادتي، وتفرغت بعدها للكتابة الأدبية، انجزت الكثير من الكتب والأبحاث والدراسات، وأسست جمعية حقوقية، وحصلت بفضل كل ذلك على لقب سفيرة السلام، أما اليوم فقد عدت بمحض إرادتي إلى الصفوف، كما كنت قد تركتها فيما مضى بإرادتي، و في كل مرة كانت الأسباب مختلفة ، اليوم أنا مكرهة ولست مخيَّرة أبداً، علي أن أعمل لأعيل أولادي في هذا البلد الذي يبدو كل مافيه غريباً عن أجسادنا وأفكارنا، أما اللغة فهي قصة أخرى.
تقدمت كغيري بأوراقي الثبوتية إلى جمعية بلبل زادة، ومديرية التربية في مدينة غازي عنتاب، فأعادوني بكل بساطة إلى التدريس.
كم بدوتُ مختلفة وأنا أدخل إلى الصف، هذا ما اكتشفته على الفور حين دخولي على أولئك الأطفال الصغار، التواقين إلى التعليم،وقد قطعوا مسافات طويلة وجاؤوا من أحياء بعيدة يصطحبهم أهاليهم إلى مدرسة جمهوريات( منبر الشام 3) للعودة إلى مقاعد الدراسة.
أنا مختلفة، لم أعد أشعر بأولئك الأطفال كتلاميذ وعلينا نحن المعلمون التنمَّر عليهم والسيطرة بشتى الطرق، كما كنا نفعل في مدارسنا، إذ أننا كنا صورة مصغرة عن المستبد الذي تسلَّم زمام البلد بكل مفاصلهِ، شعرت بهم جزءاً مني، كأولادي وقد مُنحوا فرصة للعودة إلى التعليم،كل شي في تلك المدرسة كان مختلفاً، يدعوك إلى حبِّ العلم : الصفوف نظيفة حيث كانت عاملات النظافة تقوم بذلك بكل توق، المقاعد جديدة ومن طراز مختلف، والخزانة تحتوي كل مستلزمات المعلم لأداء مهمته بأمانة ودون تقاعس، ثم تقع عيني على التدفئة المركزية في كلِّ صف، فأعود إلى مدارسنا في سوريا، على الأقل في محافظة الحسكة ومدنها وريفها، كانت المدافىء أشبه بعجوز زنجية متكئة على عصاة، تجلس في ركن ما من غرفة الصف ومتكوِّمة أمام الباب مباشرة، عجوز غادرتها الحياة فلا تقوى على منحك شيء، هكذا كانت المدفأة في صفوف مدارسنا، الأطفال كانوا يرتجفون برداً ويمرضون الواحد تلو الآخر، وبالرغم من ذلك لم يكن المعلم يكترث لهم أو يشفع لتغيبهم عن الدوام.
حاولت التحدث إلى أطفالي الجدد، بعد أن تعرفت على أسمائهم، وعرَّفتهم بنفسي ولكني لم أخُضْ في تفاصيل حياتي كثيراً، لئلا أجعلهم بؤساء أكثر مما هم فيه، على أن حياتي سلسلة من الانتكاسات القسرية، كلَّمتهم فشعرت بنفسي ،كنت قد تغيرت، لأنَّ الحياة كانت قد نالت مني بتحدياتها والثورة السورية بمعاناتها، لكنهم كانوا أشجع مني في التعبير.
محمد قال: يا آنسة أنا من حلب، تركت حقيبتي في بيتنا، لقد كنت متفوقا جداً في صفي واستطيع الآن تسميع جدول الضرب بأكمله، يقاطعه عبد العزيز وأنا من عفرين، أنا أحب الدراسة كثيراً ولكنني يا آنسة لا أجيد لا القراءة ولا الكتابة، عبد العزيز من المفترض أن يكون في الصف السادس، لكنهم صنفوه ضمن تلاميذ الصف الرابع لصغر حجمه، الفتيات صامتات، تستمعن إلى قصص الذكور بصمت وبابتسامات خجولة ، يسأل أولئك الأطفال عن الكتب والدفاتر والحقائب، عن الملابس الشتوية، أسئلتهم كانت كثيرة وخارجة عن إرادتي.
وتبقى قصة ماجد هي الأكثر إثارة ، إذ أنه قادم من ليبيا، سألته: هل أنت ليبي
ردَّ عليك لا، ،أنا سوري، ولكنَّنا منذ سنوات رحلنا إلى ليبيا، لكي يعمل والدي هناك، تكلَّم بكل براءة، يا آنسة أنا لا أجيد أي شيء، لا القراءة ولا الكتابة، أنا كنت في ليبيا ولم أدرس منذ أربع سنوات، وحين دخل ( داعش) إلى ليبيا هربنا إلى تركيا حتى لايقطعوا رأس والدي.
أصابتني الدهشة، كيف لأطفال بعمر أزارير الورد أن يعيشوا كل تلك الآلام، وما أدراهم ما داعش وغيره، كان حرياً بهم أن يكونوا في ملاعبهم.
أنهى كل واحد منهم كلامه البريء، وقصته مع التعليم والمدرسة، وأنا بقيت بعدها صامتة أتأملهم وأتخيلهم في غير هذا المكان، تخيلتهم في بيئة تليق بطفولتهم وبراءتها وعشقها للحياة على طريقتهم، ومن ثمَّ يسري بي الخيال إلى تخيُّل أطفال المخيمات بينما ما تسمى عاصفة (هدى) الثلجية قادمة.
اللوحات للفنان السوري صفوان داحول
خاص “شبكة المرأة السورية”