أوس المبارك
لمَ علينا أن نتوقع خطفهم في طريقنا إليهم صباحاً لإقناعهم بضرورة انتقال مكتبهم إلى مكان تتوفر لهم الحماية فيه؟ لمْ نتوقع أن الأوان قد فات قبل أن نجد باب مكتبهم مفتوحاً دون أن يرد أحد بعد دقنا على الباب. أحسست أن ما كنا نتخوف منه في طريقنا قد حدث. دخلتُ مع صديقيَّ المقاتلينِ في الجيش الحر إلى المكتب بعد أن شعرت بالارتياب لعدم الردِّ. كان هناك طفل قبلنا ينتظر أن يردَّ أحد. عندما شاهدنا أول فوضى، عرفنا أنهم خطفوا. ارتبك صديقاي اللذان خاف أحدهما على نفسيهما وقال لي: معك واحد درزي وواحد إسماعيلي، مو وقت نتفرج هلأ. وطلب مني أن نغادر فوراً قبل أن يعود الخاطفون. كنا نظنُّ أن الخطف قد حدث قبل قليل لأنَّ هذا ما كانت توحي به حال المكتب. ذهبتُ معهما إلى مكان آمن في المدينة وعدتُ أدراجي إلى المكتب، لأجد جمعاً من الناس أعرف بعضهم، يسألون الطفل حين دخولي عمن شاهدهم أمام المكتب. وعندما قال لهم إني واحد منهم عرفتُ أنهم يظنونني من الخاطفين!
بعد ذلك عرفنا أن الخطف قد حدث ليلاً. كان الخوف في وجوه غالب الحاضرين يغلب على الغضب، خصوصاً من يرتبط بعمله مع أحد المخطوفين. كنتُ كعادتي أول من يتوتر ويغضب، وطالبني الكثيرون بالهدوء لنفكر بما يمكن عمله الآن. بقينا في المكتب عدة أيام نحاول جمع أي معلومة قد تفيدنا، كانت لحظات صعبة نعيشها مع اتصالات وزائرين للمكتب من عسكريين ومدنيين. في اليوم الأول من الخطف جاء طفل يتردد على مكتب رزان ليقول إنه شاهدها من بعيد قبل قليل تخرج من بناء معصوبة العينين مع رجل وامرأتين – يبدو أنه شاهد ناظماً بشعره الطويل من الخلف وظنَّه امرأة – وأنه تم أخذهم بسيارة كيا سوداء مكتوب عليها دوما لا تموت (شعار لواء أسود الغوطة). جاءت دورية من الشرطة العسكرية واصطحبت الطفل إلى المكان وعاينته ولم تخبرنا بشيء مهم، سوى أن هناك قبواً سيتحرون الجهة التي تشغله، ولم يخبرونا. شخصياً شعرت أن الطفل صادق وأن الشعار المكتوب على السيارة ما هو إلا محاولة خداع لنظنّ أن الخاطفين ينتمون إلى لواء أسود الغوطة، إنْ شاهد أحد يعرف المخطوفين السيارةَ وفيها المخطوفون.
في تقديري أنّ أحد أهم الدلائل التي قد تساعد في حصر احتمالات الخاطفين هي أن العملية تمت بانضباط شديد. لم يأخذوا سوى المخطوفين ولابتوباتهم. أما موبايلاتهم فلم يأخذوها، ولم تتم سرقة تجهيزات المكتب التي تبدو مكسباً مغرياً في ظل الحصار، وحتى مبلغ الخمس ملايين ليرة ظلَّ موجوداً كما هو!
في الليلة التالية قال شخص قمت بالتواصل معه، بعد أن وصلني به أحد الأصدقاء لقوله إنه يملك معلومات هامة، إنه تحدث مع إسلام علوش القيادي في جيش الإسلام، وأنه استطاع انتزاع اعتراف منه بأنهم قاموا بأخذ المجموعة للتحقيق فقط، وأنها مسألة أيام قليلة. أخبرت أبو صبحي طه قائد لواء شهداء دوما بالأمر، وسألني إن كان هناك تسجيل لذلك، لكنه لم يكن متوفراً، وقال لي إنه سيتابع الأمر. وأيضاً لم أكن متأكداً من صدق الرجل الذي أبلغني بالمعلومة ولم أكن أعرف عنه شيئاً سوى أن صديقي الذي وصلني به أكد لي وثوقه به.
بعدها بيومين أخبرتني أخت رزان أن هناك من أخبرها أن المخطوفين موجودون في قبو قريب من البرج الطبي. أخبرت بذلك الشرطة العسكرية، وأحضروا دوريات داهمت كل الأقبية المحيطة بالبرج الطبي، ولم يعثروا على المخطوفين.
لم أكن أشعر حينها أن كل تلك الخيوط، التي كنا نظنُّ أن أحدها قد يساعدنا في الوصول إلى المخطوفين، لن نستفيد منها شيئاً يذكر طوال الشهور التالية. أيام من الضغط العصبي الشديد، وبعض المزعجين بتعليقاتهم حول سلوك رزان “غير المقبول” الذي أدى إلى الخطف.
بعدها بأيام التقيت بأحد القياديين في ألوية الحبيب المصطفى، الذي كان يتردد إلى المكتب لمقابلة رزان بصفة مدنية، وأخبرني أنه كان من ضمن المستهدفين بالخطف مع رزان، لولا أن أحد قياديي ألوية الحبيب المصطفى قد علم بالأمر وهدد الجهة الخاطفة بعدم الاقتراب من قادتهم، وأن الجهة هي جبهة النصرة. وقد ربط ذلك بخطف الدكتور أحمد البقاعي الذي تم مع القيادي في قوات المغاوير أبو زيد غنمة، وكذلك بخطف الحجي أسامة ومعاونه المسؤولين عن مستودعات المجلس العسكري. وقد تبين بعد ذلك أن خاطف الأربعة الأخيرين هو فصيل جبهة النصرة بالفعل، وتم الإفراج عنهم.
ومع غياب أي لجنة تحقيق يمكن الوثوق بها، ورفض الرجل الذي قال إنه كان مستهدفاً بالخطف بإدلاء أي شهادة أمام القضاء، ومصالح كثيرين في معرفة الجهة الخاطفة والتستر عليها لابتزازها، لم يكن من الممكن التحقق من أي من تلك الخيوط ولا متابعتها بما يضمن صالح الإفراج عن المخطوفين. ومع ذلك لم يكن المتضامنون مع القضية في الغوطة الشرقية وخارجها لييأسوا. ربما هناك الكثير من التفاصيل التي يمكن ذكرها في هذا الشأن. ومع محاولتي عدم تكرار تفاصيل تم نشرها سابقاً، إلا أن المظاهرات التي خرجت في دوما وسقبا للمطالبة بحريتهم، كانت مما يملأ القلب بدفء التضامن وفاعليته في تجريم الخاطفين. وكذلك بيانات التضامن مع المخطوفين وإدانة الجريمة من كثير من القوى المدنية والعسكرية. وكذلك حدث في كثير من مناطق سوريا وخارجها.
أما معلومة فتح الحسابات الإلكترونية التي تخص المخطوفين من جهاز إنترنت فضائي يتبع لجيش الإسلام، حسب إعلان ياسين الحاج صالح الكاتب المعروف وزوج المخطوفة سميرة الخليل، فقد كانت أولى الخيوط التي تساعد في معرفة الخاطفين أو المتورطين معهم على الأقل.
قد تكون أهمية هذه المعلومة أنها لا تحتاج لمتابعة ميدانية في ظل عدم جدية جميع الجهات القادرة على فعل شيء كما لمسنا. لكن قبل أيام من إعلان ياسين الحاج صالح عنها، جاء شخص يتبع للجبهة الإسلامية التي تضم جيش الإسلام وحركة أحرار الشام وغيرهما، ليقول إنه قريب رزان زيتونة، وأنه أخبر زهران علوش بنيَّته متابعة قضية المخطوفين وأن الأخير لم يعارض. وطلب منا تقديم ما يمكن أن يساعده في ذلك، وبدا مستغرباً أن المخطوفين هم أربعة وليست رزان وحدها. وعلل ذلك بأنه كان طيلة فترة الخطف مرابطاً في عدرا العمالية مع حركة أحرار الشام وأنه عاد منذ أيام فقط. وأنه يستبعد تماماً أن يكون جيش الإسلام متورطاً. وأخبرناه أن أهالي المخطوفين قاموا برفع قضية في القضاء الموحد للغوطة الشرقية ويمكنه متابعة المعلومات مع القضاء إن سُمح له بذلك.
وبالطبع لم يكن لدينا ثقة به أول الأمر. لكنّ شدة متابعته للقضية إلى أن وصل –على حد تعبيره– إلى دلائل جديدة تدين قيادات تابعة لجيش الإسلام جعلتنا نعيد النظر في نواياه. أهمها معرفة الشخص الذي أرسل اثنين من عناصره قبل الخطف بأيام، ليرموا أمام باب مكتب المخطوفين برسالة تهديد ويطلقوا النار تخويفاً. وقد قال أحد هؤلاء الثلاثة في التحقيق معهم إن الأمر تم بدفع من أحد مشايخهم. لكنهم لم يقوموا بالخطف ولا علاقة لهم به.
ومع كل إنكار قيادات جيش الإسلام لكل شيء تمت معرفته، وعدم وجود قوة تستطيع الضغط عليهم، وطول فترة غياب المخطوفين لدرجة شعور كثير من المتعاطفين أنه تمت تصفيتهم، لا يجب علينا أن نتوقف أبداً. عام مضى وهم حاضرون معنا في غيابهم، وعلينا الاستمرار في حقنا عملَ كل شيء مشروع يساعد في الإفراج عنهم. وإن الثائرين الذين لم يخافوا من رصاص عصابات الأسد لن يخافوا توحشَ المستبدين الجدد ذوي الذاكرة القصيرة، ولن يرهبهم خطر الخطف أو القتل. وستظل أصواتهم تصدح بالشعار الذي علقه المخطوفون على باب مكتبهم: (كل من ينتهك حقي أناديه ظالماً).
عن صحيفة “طلعنا عالحرية”