Search
Close this search box.

الــورقة المــشؤومة – شبكة المرأة السورية

 

في ليلةٍ شتويّةٍ باردةٍ، ساد الهدوءُ القريةَ الصغيرةَ. خلف النوافذ المظلمة، اختبأتْ الأسرارُ والآمالُ. وفي أحد البيوت اجتمع الأهلُ حول الموقدِ الدافئِ، وكلّهم آذان صاغية لحكايا الأجداد وبطولاتهم في الزمن القديم.

في غرفةٍ مجاورةٍ، كان شابٌّ يحلم بمستقبلٍ مشرقٍ، يخطّطُ لتحقيقِ أحلامه. 

وفي زاويةٍ منعزلةٍ، كانت فتاةٌ تكتبُ قصصاً مليئة بالأمل، تحاولُ من خلالها الهروبَ من واقعها القاسي. كان كلٌّ منهم يعيشُ في عالمه الخاصّ، متّصلاً بالآخرين بخيوطٍ خفيّةٍ من الأملِ والانتماء. كانت “عبير” تجلسُ قرب النافذة، تتأمّلُ وميضَ النُّجومِ في السّماءِ، وتستمعُ إلى همسِ الرياح التي تحملُ معها حكايات من الماضي. وفي زاويةٍ من الماضي الحزين، عادتْ بها الذكرياتُ إلى اليوم الّذي قرّرت فيه التخلّي عن حلمها.

 “عبير” فتاةٌ في الرّابعة عشرة من عمرِها، تحملُ في قلبها حُلماً كبيراً حلماً بأن تُصبح قاضيةً، وامرأةً قويّةً تُدافعُ عن الحقِّ والعدلِ.  فهي ترى في هذا الحلمِ وسيلةً لتحريرِ النّساءِ من القيودِ التي تكبلهنّ، وتغييرِ نظرةِ المجتمعِ القاسيةِ لهنّ.

بقيت تقضي ساعات طويلة وهي تتخيّلُ نفسَها تقفُ في المحكمةِ، صوتُها المدوّي يهزّ أركان القاعةِ وهي تنطقُ أحكاماً عادلةً. وتَمنّت أن تُصبحَ صوتاً للمظلومات، وأن تُساهم في بناءِ مجتمعٍ أكثرَ عدلاً وإنصافاً.

ولكنّ حلمَ عبير كان يصطدِمُ يوماً بعد يومٍ بحواجزِ المجتمعِ المتصلّبةِ. وكون العاداتُ والتقاليدُ تَقصرُ أحلامَ الفتيات على الزواجِ والإنجابِ، كان من النادرِ أن تَجَد فتاةً تسعى إلى التعلّمِ أو العملِ.

فكلما حاولت “عبير” مناقشةَ حلمها مع عائلتِها، وجدتْ مصير حلمها يُتوّجُ بالرفض لأنّ تعليمَ “البنات” مضيعةٌ للوقتِ والمالِ في نظرِهم. دائماً يرون أنّ مكانَ المرأة هو المنزل، وأنّ طموحاتها يجبُ أن تتوافقَ مع تقاليدِ العائلة والمجتمع. حيثُ إنّ التمييزَ بينَ الجنسين والعنف، والطابع الذكوريّ بشكلٍ عام ّهو المسيطر في المجتمع القرويّ.

شاهدتْ جدّتها وهي تعملُ بلا كللٍ في المنزلِ دون أدنى تقدير لجهدِها. رأت أُمّها تتحمّل أعباءَ الحياةِ وحدَها، بينما يُعتَبَرُ الأبُ هو ربُّ الأسرةِ الوحيد.

شعرتْ “عبير” باليأسِ والإحباطِ. بدأتْ تشكُّ في إمكانيّةِ تحقيقِ حلمِها. دائماً تسألُ نفسَها: هل يمكنُ لفتاةٍ من قريةٍ صغيرةٍ أنْ تغيّر العالمَ مِنْ حولِها؟ هل يمكنُها أن تتحدّى العادات والتقاليد المتجذّرة. في هذه اللحظة، وقفت “عبيرُ” أمام مفترقِ طُرُقٍ. وإذا بذاكرتها تأخذُها إلى ذلك القرارِ المشؤومِ الّذي حوّل حياتَها إلى جحيمٍ، فزاد الأمر سوءاً عندما غطّت الحربُ كسحابةٍ سوداءَ قريتَها الصغيرةَ.  لم تعُدْ تعرف سوى الخوف والقلق، ضغطت عليها عائلتُها وعملت على تزويجها من ابن عمِّها الشابّ. 

وهي فتاة صغيرة لا تفهمْ معنى الحبّ أو الزّواج، شعرتْ وكأنّها طائرٌ سجينٌ في قفصٍ، سُلِبَتْ منها طفولتُها وحرّيتُها. وكلّ يومٍ يمرُّ يزدادُ شعورُها بالظلم والمرارةِ، وشعرت كأنّ العالم كلُّه يتآمرُ عليها.

 في قلبِ الحرب كانت “عبير” تخوض حرباً أخرى، حرباً داخليةً ضدّ الظلم والقهر، فبينما كان أهل قريتها منشغلين بالصراعات، كانت هي منشغلة بحزنها على ضياع طفولتِها وحرّيتها. الزواج في مثل هذا العمر قرار لا يقلُّ قسوةً عن الحربِ نفسِها، كيف يمكنُ لطفلةٍ أن تحملَ أعباءَ امرأةٍ وتتزّوج، وخصوصاً أنّ هذا الزواج متّفق عليه بين العائلتين خوفاً من وصمة العار التي تلحق الفتيات، حيث إنّ ابن عمّها ينظرُ إليها نظرةَ احتقارٍ، وكأنّه يرى حشرةً ضئيلةً. 

دائماً يسخرُ من أحلامها بأن تصبح قاضيةً، ويقولُ لها: “أنتِ صغيرةٌ جداً على مثل هذه الأفكار، مكانُك المطبخ وليس المحكمة”.

 كانت تخافُ من صوته العالي ونظراتِهِ الحادّة وتشعرُ بأنّها حبيسةٌ في منزله وغيرُ قادرةٍ على الهروبِ من قبضته.

 تحاولُ أن تتجاهل كلماتِه الجارحةَ التي تتغلغلُ في قلبِها كالسّهام. أصبحت تشكّك في نفسِها وفي قدرتها على تحقيقِ أيِّ شيءٍ.” وإذ بوميض يلمعُ في السّماءِ لتستيقظَ “عبيرٌ” من شريط الذكريات إلى شريط الواقع المرير، واقع الورقة البيضاء صغيرة الحجم.

كانت كلّ يومٍ تستيقظُ على تلك الورقة المشؤومة، التي وقّعت عليها بيدٍ مرتعشةٍ دون أن تعرف أنّ تلك الورقة قد حدّدت مصيرها، مصير مستقبلها، فقرّرت في تلك الليلة إنهاء وتمزيق تلك الورقة والانفصال.

كان قرارُها محفوفاً بالمخاطر، لكنّها مصمّمة على بدء حياةٍ جديدةٍ. فخرجت مع عائلتها باحثةً عن اللجوء، حتى وصلت إلى بلادٍ غريبةٍ، وواجهت صعوبات أكثر.  

وبسبب خوفِ والدتها عليها أرغمتها على الزواج من رجلٍ من جنسية مختلفة، لديه المال والنفوذ وهي لديها الجسد، رجل قرّر أن تكون الخيار الثاني لديه.

في بداية الزواج وعدها بحياةٍ ورديةٍ ولكن سرعان ما أظهر لها عكس ذلك، حيث إنّه كان يتحكّم بكلِّ شيءٍ ويُهينها بشكلٍ مستمرٍّ، ويمنعُها حتى من رؤية عائلتِها وأصدقائِها. وقام بعزلها عن العالم الخارجي بحجّة أنّها “لاجئةٌ”، وصمةُ عارٍ أخرى تطفو في مخيّلتها، فعاشت في عزلةٍ كبيرةٍ، وشعرتْ بحاجةٍ ملحّةٍ لوالدتها التي غالباً ما تكون منشغلة عنها بمتاعب الحياة ولم تستطع أن تقدّم لابنتها حتّى الدعم العاطفي. 

مع مرورِ الوقتِ، بدأتْ تشعرُ بأنّها تفقدُ حريّتها، وأنّها مجرّدُ ظلٍّ لزوجها فتذرف دموعاً صامتة في ظلام الليل وكم تمنتْ لو أنّها لم تغادر بلدَها. 

جلستْ على شاطئِ بحرِ مرسين، تنظرُ إلى الأمواجِ المتلاطمةِ، وكأنّها ترى انعكاساً لحياتِها المضطربةِ. الورقةُ البيضاءُ هي بمثابةِ لعنةٍ تُلاحقها، وتطوف في ذاكرتها كالشبحٍ. تتذكّر يوم تسلّمتها، وكأنّها تحملُ حكماً بالإعدامِ لحياتها. مرّت السنواتُ وتغيّرت البلادُ، وتغيّرت الظروفُ، ولكنّ الورقةَ ظلّت ثابتةً، تذكّرها دائماً بما فقدته في المرّتين، وهي الآن تبحثُ عن ذاتها لعلّها تجدُ وسيلةً لإنهاء قرارِ الإعدامِ الذي كُتبَ عليها.  

 

خلود الحسين 

شبكة المرأة السورية 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »