حكاية فتاة شرقيّة والحريّة في أوروبا
في غرفةٍ صغيرةٍ منحتها لي حكومةُ بلدٍ أوروبي، أراقبُ الوقتَ وهو يتباطأ بفعلِ البيروقراطية التي تتّسمُ بها هذه البلاد، وهو ما توقّعته من قبل أن أُقدِمَ على طلب اللجوء. لكن ما لم يكن في الحسبان أنّني، في هذه الزاويةِ من العالم، لم ولن أجد الأمان الذي سعيت إليه.
حين تقبّلت فكرة الهروب، والنأي بالنفس، أو الاستسلام الذي كنت أرفضه طيلة ثلاثة عقود في سوريا، قرّرت المجيء إلى هنا! كان هدفي من البقاء، هو أن أخفّف من وطأة الضغوطات التي كنت أتعرّض لها بشكلٍ شبه يوميّ من السلطات المتعدّدة في مجتمعي الذي تغلب عليه العاداتُ والتقاليد، بحكم أنّه مجتمعٌ عشائري، وكي لا أُعرّض أهلي ذوي الخلفيّة الدينيّة الملتزمة لمزيدٍ من اللوم ومن كلام الناس الذي لم يرحمهم يوماً، وما زال.
هُنا، في هذا المكان الجديد، حيث يُفترض أنّ حريةَ وأمانَ النساءِ حقّان مضمونان وغير مسموحٍ لأحدٍ المساس بهما، وجدتُ نفسي أمامَ تحدّياتٍ من نوعٍ آخر. بعضٌ من أصدقائي وصديقاتي، إخوتي وأخواتي، أقاربي ومن كنت أعرفهم، قرّروا التعدّي عليَّ، سواءٌ من خلال الكلام اللفظي الجارح والتهديدات المباشرة والضمنيّة، أو على أقلّ تقديرٍ التلويح بالقطيعة الكاملة عقاباً لي على أسبابٍ يعتبرونها ممنوعات أهمّها “خلعي الحجاب” و”اندماجي الزائد في عالمي الجديد” على حدِّ تعبيرهم.
لم أتفاجأ بكلِّ ما حدث ويحدث إلى لحظة كتابتي هذه المادة، إلّا أنّني، ولا أخفيكم القول، أنّ العنف النفسي المستمرّ يؤلمني بشدّة، والذي يتبدّى بالقلق من أيّ رسالةٍ تصلني من رقمٍ غريبٍ أو على أيّ حسابٍ من صفحاتي على الإنترنت، أخاف من أن تكون تهديداً آخر، أو حتى شتماً وإهانة معلنة، من أناسٍ لا أعرفُهم، لكنّهم يعرفونني، ووجدوا أنّ من واجبهم الانخراط في الحرب المعلَنة ضدّي.
أتساءلُ كلَّ يوم: هل كانت الحريّةُ التي سعيتُ إليها تستحقُّ كلَّ هذا العناء؟ هل خلعُ الحجاب، مثلاً، أو كتابتي لتقريرٍ عن الدعارة أو المساكنة في شمال شرق سوريا، يستدعي أن يعتقد الكثيرون بأنّني أكتب عن نفسي؟ أو أنّ بعض آرائي الجريئة عن الحريّات وممارستي لبعضها في العلن، تجعلني أستحقُّ ألّا أُترك بسلام؟
على الرغم من أنّني أواصل حياتي؛ أضحك، أفرح، أعمل، أدرس اللغة، وقد أصبحتُ، على غير عادتي، عصيّةً الدمع. أشغلُ نفسي بكلِّ ما أستطيع، هاربةً من التفكير فيهم وفيما يلاحقني من ذكريات. لكنّ عنفهم يظلُّ يطاردني في كلِّ مكان، وكأنّما حملته معي إلى هنا، فعلياً هو رعب يلاحقني كظلي.
لم أشعر بعدُ أنّ هذه البلاد (أوروبا الحلم) قد وفّرت لي، ولمن هنَّ مثلي، الحمايةَ الكافية من تهديدات المجتمع وألسنةِ الناس وأحكامهم، لدرجة أنّني قرّرتُ ألا يعرفَ أحدٌ عنوانَ بيتي. صحيحٌ أنّني بدأتُ أتحلّى بجرأةٍ أكبر، لكن بعدَ كلِّ هذا، بدأتُ أشعر برغبةٍ في الاختفاء. وهذا شيء غريبٌ عن شخصيتي التي أعرفها، فأنا لا أخافُ الموت، لكنّني ربّما سئمتُ الحروب المستمرّة على حقوقي الأساسيّة وأوّلها حقّي بالحياة! في عالمٍ يبدو كأنّه يرفضُ منحي حتى الحدّ الأدنى من السلام والطمأنينة.
نور الأحمد
شبكة المرأة السورية