أنا والباص الأخضر
عند تمام الساعة الثانية عشرة، اشتعلت السماء فوق رؤوسنا في وادي بردى، لم يكن ذلك احتفالاً برأس السنة كما يحدث على بعد كيلومترات في دمشق. هنا كانت السماء تشتعل بنار الصواريخ والبراميل المتفجّرة، التي حوّلت ليلنا إلى نهارٍ قاسٍ ملتهب. هكذا حلّ علينا عام 2017، وسط حصارٍ خانق على هذه البقعة من الوادي، حيث تجمّع بين جبالها عشرات الآلاف من النازحين والأهالي الأصليين.
انقضى الشهر الأوّل، اشتدّ الحصار المطبق منذ أشهر، ونفدت معظم المؤن والموادّ الغذائيّة من مطابخ العوائل المحاصرة، علت أصوات الأطفال الجوعى، حتى مياه الشرب انقطعت مع انقطاع الكهرباء عن نبع وادي بردى، خزّان دمشق الرئيسي. كنت أقول لنفسي: هل يُعقل أن نعطش ونحن فوق بحر من الماء؟ ربّما كانت هذه التناقضات هي ما جعلني أدرك قيمة الأشياء العظيمة التي فقدناها في الحرب، وسط أحاديث الأهالي التي لا تنتهي عن (الباص الأخضر) الذي قد ينقلنا، إن بقينا على قيد الحياة، إلى منفى جديد أو سجن أكبر من هذا الوادي المحاصر.
تحوّل الباص الأخضر إلى وسيلة تهجير علنيّة، كان رسالة تهديد واضحة من النظام لفكّ الحصار عن المدن أو البقاء تحت رحمة البراميل والجوع، لم يكن لديّ خيار آخر كي أنجو بأطفالي، وكذلك بقيّة النساء والعوائل المحاصرة، فاخترنا مُجبرين ركوب الباص الأخضر كوسيلة هروب جماعيّة إلى حياة مجهولة أيضاً.
غاب صوت النساء المحاصرات، الأمّهات والزوجات وكذلك الشابّات اللواتي عشنَ تحت الحصار عن تحديد مصيرهن والقبول بالتهجير القسريّ، ربّما لم نملك حينها رفاهية التفكير والاختيار لأنّ وجودنا في المدن المحاصرة جعلنا ضميراً مستتراً خلف الوصف القاسي (المسلحون وعوائلهم) الذين ستحملهم القافلات عند اكتمال الصفقة.
فالأمّهات والزوجات والبنات لم يكن لهنّ حريّة الاختيار بين البقاء والتهجير، لم يتمّ سؤالهنّ إن كان قرار التهجير قرارهن الداخلي، أم هو مجرّد تحصيل حاصل للالتحاق بأزواجهنّ وأولادهنّ أو عوائلهنّ، رغم أنّهن جزء أساسيٌّ من جميع صفقات التهجير.
اقترب الباص الأخضر أكثر من أيّ وقت مضى، حتى وصل إلى مشارف بلدة دير قانون التي سيطر عليها النظام، الوجوه باهتة، العيون تملؤها الحيرة، الخيارات تكاد تكون معدومة، كيف لي كامرأة تحمل نار الثورة في دمها، وأم لطفلين، وزوجة شابّ اختار الانشقاق عن النظام، أن أُسلّم نفسي للعبوديّة من جديد؟ الحريّة كانت قرارنا منذ الأيام الأولى في آذار عام 2011، إذاً ليكن الباص الأخضر وسيلتنا الأخيرة، علّنا نصل به إلى نور الخلاص الذي لم نبلغه بعد.
نهاية كانون الثاني، كان صباحنا الأخير في قرى وادي بردى، الذي احتضننا قرابة سنتين بعد نزوحنا الأول من جبال القلمون، حينها خبرت طعم النزوح لأوّل مرّة ضمن حدود ريف دمشق، كان مرّاً مثل العلقم أمّا اليوم فالطعم لاذع؛ بل أكثر مراراً لأنّه هذه المرّة خارج نطاق دمشق وريفها. الباصات الخضراء بانتظارنا، تتبعها قافلة طويلة من الحافلات الأخرى، إلّا أنّ الباص الأخضر حمل رمزيّة خاصّة. لم أكن أتخيّل أنّ هذا الباص الذي استقللتُه ذات يوم في طريقي إلى الجامعة وفي شوارع دمشق سيصبح وصمة عار لنا ورمزاً للعنف والتهجير.
وقفنا ساعات طويلة على جانب الطريق، منتظرين لحظة انطلاق صفقة التهجير، الآلاف حولنا رجال مسلّحون، مدنيّون، هاربون من واقعٍ لم يترك لهم سوى الرحيل، بينهم نساء وأمّهات وأطفال وعجائز. الحقائب والأكياس كانت تفصل بيننا، بعضها أُلقي على الأرض فانكشفت محتوياته، وبعضها أُحكم إغلاقه بعناية، خاصّة تلك التي أعدّتها النساء اللواتي رغم قسوة الموقف لم يتخلينَ عن حرصهنّ على ضبط أدقّ التفاصيل، أمّا أنا فكنت أمسك بطفليّ الصغيرين بكلتا يديّ، بكلّ ما أملك من قوّة فهما الأمل الوحيد الذي أملكه في تلك اللحظة وأخاف أن أفقده، ولشدّة البرد وخوفي عليهما خلال ساعات السفر الطويلة التي تنتظرنا، ألبستهما الكثير من الملابس الصوفيّة فوق بعضها بعضاً حتى اختلفت ملامح جسديهما الصغيرين دون أن يدركا ما يدور حولهما، حملت حقيبة صغيرة على ظهري فيها دمية صغيرة وقطع ألعاب من المكعّبات الملوّنة خبّأاها في الحقيبة عندما عرفا أنّنا سنغادر المكان، أمّا أنا فأخذت القليل من الملابس التي أحتاجها وأوراقنا الشخصيّة والكثير من الدموع والذكريات التي أثقلت ظهري وقلبي معاً.
الضجيج وحده الذي يملأ المكان المزدحم، أصوات متداخلة تختلط بعناق وبكاء ووداع بين من اختار الصعود إلى الباص الأخضر ومن فضّل البقاء. زمامير السيارات والشاحنات المضطربة تصدح كأنّها عقارب ساعة تدقّ بسرعة وتعلن اقتراب موعد الرحيل. هنا، بكت السماء بشدّة وكأنّها تودّعنا، فتبلّلت ثيابنا سريعاً، بينما وجوهنا كانت مبلّلة ومالحة قبل أن تبدأ الأمطار. مشت القوافل مسرعة، ملتوية على الطرقات، وتوقّف الكلام، فقد آن الأوان برحلة طويلة عنوانها أنا والباص الأخضر.
منيرة بالوش
شبكة المرأة السورية