Search
Close this search box.

لماذا تجاهل الكتاب معاناة النساء في الحروب؟

لماذا تجاهل الكتاب معاناة النساء في الحروب؟

غادة جمعة
في جحيم الحروب ينكمش الخيال فلا تستطيع أي موهبة أن ترصد الفجائع, وتصبح أكثر الأقوال صدقاً تلك التي تخبر بالوقائع. لكن معظم الأحداث التي جرت في الحروب قديماً لم تخبرنا عن معاناة المرأة وتشردها بشكل خاص في فترات الحروب, وإنما علمنا بوطأة الحروب في سياق الأزمات البشرية. وقد أفتقرت الفترة منذ بداية القرن الماضي إلى الكتابات والتأليف التي تستحقها المرأة حول ماكابدته ومارافق حياتها من فقر وجوع وتشرد. ربما في تجاهل مقصود لأهمية دورها في الحروب وهذا بالأغلب يعزى للسطوة الأبوية السائدة في المجتمع منذ الأزل.
كانت حكايا جدتي عن الحروب التي نشبت في بداية القرن الماضي تشبه قصص كل الجدات في سردياتها المحزنة والمنكهة أحياناً بروح الدعابة لإرضائنا.
أحبت جدتي أن تحكي ماتريد سماعه من قصص تؤثر في أنفسنا وتجعلنا في دهشة من هول الأحداث وخاصة كيف صدر الفرمان العثماني بالخدمة الإلزامية أثناء الحرب العالمية الأولى وذهب كل الرجال في البلدة إلى سفربرلك ولم يبق سوى العجائز منهم. كان جدي واحدا من هؤلاء الشبان, كان ينتظر مجئ المولود الأول بفرح. بقيت جدتي تنتظر عودته وتعد الأيام تلو الأيام وتأمل رجوعه ولم يتحقق رجاؤها, عملت بصبر على رعاية أمي بصعوبة. كان طعم العلقم ممزوجاً بحرقة الفراق في حديثها عن الحرب ولم تنسى مارافقها من جوع ومرض وعذابات رغم مرور تلك السنوات الطويل.
في كل جلسة مع الأحفاد تذكر لنا كيف كانت تذهب مع نساء القرية للحصول على بعض حبات الشعير والقمح المتواجدة بين القش المتناثر هنا وهناك في السهول البعيدة ليصنعوا منها مع بذور المكانس والقنب بضع كسرات من الخبز يقتاتون بها, وكيف أنها مراراً صعدت التلال وتسلقت الأشجارمع النسوة من أجل إلتهام بعض حبات البلوط والخروب من الأشجار الضنينة. أما أعشاب الأرض لم تكن في وفرة سوى ما تأكله البهائم. كانت تشكر الله وتعتبر نفسها محظوظة أنها بقيت على قيد الحياة.
رغم أن الروايات والمسرحيات والقصص امتلأت بقصص أحوال الناس وبؤسهم في القرن الماضي ولكنها بالكاد كانت تذكر معاناة النساء في بلادنا من فقد وجوع وتشرد وكل ما ذكر من أخبار قبل الحرب وبعدها كان متجاهلاً لأحوال المرأة ومعاناتها رغم أنها هي الخاسر الأكبر في النزاعات. وماوصل إلينا عن دور المرأة ومعاناتها في الحروب كان في معظمه شفهياً عن طريق الدور الاجتماعي للإناث بإعتباره الحافظ والموثق لتاريخ المجتمع عبر السرد الشفوي.
نحن لا ننكر أن بعض الكاتبات في رواياتهن تناولن تأثير الحروب حديثاً على النساء مثل الكاتبة غادة السمان التي تحدثت في روايتها “كوابيس بيروت” عن تأثير الحرب الأهلية اللبنانية على حياة الأفراد بما في ذلك النساء. وكذلك الكاتبة السودانية ليلى أبوالعلا رغم أنها لاتركز حصرياً على الحرب، فإنها قدمت نظرة ثاقبة عن الصراع والنزوح وحياة النساء المتأثرات بالحروب في روايتها “روح النهر”، بطلتها فتاة اسمها أكواني -زمزم أختطفت وبيعت أثناء الحرب وهي طفلة. وكذلك الكاتبة نوال السعداوي في روايتها “امرأة عند نقطة الصفر” سلطت الضوء على تأثير الحرب على حياة المرأة.
ولكن معظم الكاتبات رغم نظرتهن الثاقبة لمعاناة المرأة أثناء الحروب, كانت أولوياتهن تتناول قضايا مثل عدم المساواة بين الجنسين واستقلالية المرأة وتأثير التوقعات المجتمعية على حياتها.
بعد مرور زمن لابأس به من تجاهل تأثير الحروب على المرأة بدأت بعض الكتب في الغرب تستكشف التجربة الجريئة للمرأة أثناء الحروب وصوروا تحدياتها ودورها وقدرتها عل الصمود وخاصة بعد مشاركة المرأة في شتى أنحاء العالم في النزاعات المسلحة وكيف لعبت دورا في الحروب على إمتداد العصور, وكان للنساء في الحرب العالمية الثانية دوراً هاماً تمثل أساساً في قوات الإحتياط والإسناد والعمل في مصانع الزخيرة, إضافة الى المشاركة الحقيقية في الإقتتال في جميع الوحدات العسكرية.
رغم أن الرأي العام والإعلام في مجتمعاتنا يميل الى تصنيف النساء في حالات النزاع المسلح على أنهن بصورة خاصة ضحايا ضعيفات أمام الخطر, وكثيراً مايواجهن في مناطق النزاع مخاطرة متزايدة للعنف الجنسي وفقدان للحقوق الأساسية في المجتمع، ولكن يؤكد البعض على مرونة المرأة وقوتها في مواجهة الشدائد بعد أن أثبتت الأحداث أن النساء لسن مستضعفات وإنما يتمتعن من خلال المسؤوليات الملقاة على كاهلهن شجاعة ملحوظة في الحرب وفي بناء السلام ولديهن قوة وبراعة على مواجهة الصعاب إلى أقصى حدود, سواء بصفتهن ربات عائلات ومساهمات في تأمين مصدر لدخل الأسرة ومسؤولات عن رعاية أسرهن فضلا عن مشاركتهن في معظم النشاطات المجتمعية المحلية .
من المؤكد أن المرأة في مجتمعنا عانت من آثار الحروب الطويلة التي اجتاحت المنطقة منذ سنين وعرفت الفقد والنزوح وتعرضت للكثير من الصدمات والعنف وتحملت وطأة الأزمات الإنسانية والنفسية ولكنها وقفت كالشجرة الشامخة في وجه أعاصير الحروب العاتية وساهمت وما تزال تحاول أن تحدث تغييراً في الأعراف المجتمعية وفي توليها للمسؤوليات الصعبة مما يعزز قدرتها على الصمود والتمكين والتعافي المستدام.
خلاصة القول، لم يكن كل الكتاب عبر التاريخ منصفين في تصويرهم لمعاناة المرأة أثناء الحروب, بدليل أن العديد من الروايات التاريخية تأثرت بالأعراف والتحيزات المجتمعية مما أدى إلى وجهات نظر متنوعة حول تجارب المرأة عن الحرب, فنجد أن بعض الكتاب سلطوا الضوء على نضال المرأة والتحديات التي تواجهها بينما قلل آخرون من أهمية نضالها أو تجاهلوها.
“إذا كانت الحروب خلاصة كل الشرور, فالإستبداد خلاصة كل الحروب” سيمون بوليفار.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

One Response

  1. أثناء قراءتي لمقالتك الرائعة كنت أسلط الضوء بداخلي دون قصد على معاناتي أثناء الحرب في حلب، فكثيراً ما استغربت القوة التي كنت فيها والشجاعة التي جعلتني أعبر الشوارع المتخمة بالقنّاصات لأصل بيتي، البيت الذي جدّدت عفشه وديكوره وكلّ مافيه بعد ان احترق قبل الثورة بخمسة أعوام، كنت اذهب إليه لأحطّم ماتبقّى من أثاثه وأحمله لنتدفئ به ونطبخ عليه …ربّما لم أصب بانهيار عصبي ولا ضعفت يومها لأن الروح أغلى من كلّ ممتلكات الأرض..وغيري من النساء كثيرات، تحمّلن التشرّد والالتنقّل والحرمان بصبر وقوة …
    سلمت يداك أ. غادة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »