عبير محمد
قد يكون قدر السوريين العيش بين بوابات العبور, وقدر السوريات أن يحملن أجنتهن ورضعهن ليخضن بهم غمار الأسفار, منهن يلدن في لج البحار لكي يعبرن بهم إلى بر الأمان، وبعضهن يرحلن إلى عالم قد يكون أكثر أمانا حيث لاعودة منه.
بعد أن ضاق بي العيش كغيري من السوريين، كان لابد من الهروب من المستنقع السوري، لنبدأ أنا وابني (11 عاماً) بمسيرة اللجوء والنزوح عن هذه الأرض.
أصبح الهروب لأمثالنا قدراً محتوماً لمن استطاع سبيلاً.
كانت محطتنا الأولى ليبيا للعبور عبر بحرها إلى دول أوروبا، ذلك الحلم الأزلي لكل مضطهدي العالم.
لم يكن الأمر سهلاً على أرملة الخروج بابنها القاصر دون الحصول على وصايته من المحكمة الشرعية. وبعد عناء وجهد والقيام بالإجراءات المطلوبة لأجل هذا الأمر، ثم إتمام الطلب المليء بالأختام والشبيه بالإستجداء، لتقديمه للقاضي الشرعي, حصلت على وصاية ابني المؤقتة لمدة ثلاثة أشهر فقط, لكنها كانت كافية للخروج به.
وابتدأ المشوار.
والمشوار كان في ليبيا.
لم تكن ليبيا الخيار أو البديل المناسب لإمرأة معها صبي قاصر, كبلد عربي بعيد تماماً عن المجتمعات المواكبة للتطور والحداثة ولا حتى المناصرة لحقوق النساء, إضافة لكونها بلد حرب وتعاني ما تعانيه من انقسام لمناطق تحكمها مليشيات, ومشاكل وتبعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية, لكن كان لابد لنا من التحرك والمحاولة على أمل الوصول.
المرأة كما في الأعراف السائدة في البلدان العربية, هي المكون الأضعف بين مكونات المجتمع, فالمرأة الليبية ليست عنصرا فاعلاً بشكل حقيقي. ومحكومة بالعادات التي تشكل تقييداً واضحاً من حيث الإندماج والتفاعل وتقرير المصير، أو إتخاذ القرارات من النواحي السياسة والإقتصادية عامة والإجتماعية خاصة. على الرغم من وجود حركات فردية لناشطات ليبيات على المستوى الثقافي والإجتماعي في الوسط العام.
مكثنا هناك مدة ثلاثة أشهر فكان لابد من الإندماج والتأقلم مع طبيعة هذه البلد ببيئتها الصحراوية وطبيعة شعبها كنسيج منغلق رغم وجود دماء غريبة وخليط من الجنسيات العربية الأخرى.
بعد ذلك اقتربت لحظات العبور الحقيقية المنشودة عبر البحر إلى إيطاليا, حيث بدأنا في الصباح بالإستعداد للرحيل. تم نقلنا إلى مستودع مليئ بالمهاجرين غالبيتهم من الشباب المصريين والأفارقة البنغال والقليل من السوريين. لم يكن بينهم سوى ثلاث نساء كنت واحدة منهن وطفل وحيد هو ابني, كان الإنتظار بذلك المكان المكتظ مرهقاً ومريراً, حيث كان بعيداً عن الأعين لنبقى به كل ساعات النهار, ثم قادنا المسؤولون عن تهريبنا مشيا بالبحر لمدة نصف ساعة حاملين أغراضنا الشخصية, بالإضافة لقهرنا وخوفنا بمواجهة البحر الذي قد يبتلعنا بلحظة تكاد تكون أقصر من لهاث أنفاسنا.
صعدنا المركب الذي تكدس حتى أصبحنا أشبه بالبضائع المرمية فوق بعضها, جعلوا الشباب البنغال ينزلون لأسفل القارب ووضعوا معهم زوادة الرحلة من الوقود بما يكفي للوصول.
مشى بنا القارب ليلاً بهدوء شديد خوفاً من اصطياد خفر السواحل الليبي له, وهو أشد وطأة علينا وأكثر رعبا بالنسبة لنا من رعب البحر والغرق، كونه جهازاً مافيوياً معروفاً عنه أنه يعتقل الهاربين ليتقاضى جزية أو فدية مقابل إطلاق سراحهم.
وحتى النساء قد لا يرحموهن من الإعتقال والإضطهاد أحياناً.
قضينا الليلة في البحر مترقبين حذرين, ننتظر فيها بلوغ الفجر, علنا نرى أفقا للبلاد الموعودة.
أتانا الصباح بشمسه لترمي بسياط حرارتها فوق رؤوسنا متجاهلة حرقها لأجسادنا المتعبة والمنهكة، حتى تكاد تجزم بأنها تتواطئ وتتشاطر مع البحر الضرب على أجسادنا دون تردد أو خجل، ببداية يومها الصيفي من شهر آب الأشد حرارة. لم نر خلالها سوى المدى البعيد لبحر لاينتهي وشواطئ لا تقترب.
مضى نهارنا ونحن نترنح تعبا وعطشا، آملين الوصول لأي مكان ينقذنا مما نحن فيه. بتنا نطلب الخلاص لا الوصول.
لم نكن نعلم بتلك المؤامرة الملمة بنا حيث اتفق القدر لحظتها مع نوايا الشيطان بعدم الخلاص عندما اكتشفنا موت شاب بنغالي اختناقاً بروائح المحروقات الموجودة أسفل القارب. لم نشعر به، لأننا كنا شبه غائبين عن كل شيء، كمن لايرى سوى السراب في وسط الصحراء. كان يضرب القارب من الأسفل مستنجداً، لكن كنا كالمقيدين لانملك من أمرنا حتى القدرة على الصراخ، حتى أننا كنا غير مدركين لما يحصل بالأسفل.
كانت الفاجعة تتماهى مع آلامنا وقهرنا ككل، عندها أخذ القبطان القرار بعدم المتابعة، ليسير القارب دون هدف، ولنفقد بعدها طريقنا ونضيع في عرض البحر.
لكن القسوة الحقيقية عندما صرخ ابني مذعورا باكياً: “أمي لا أريد الغرق، لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت”.
كلماته وخوفه سقطا على كياني وقلبي كصعقة كهربائية على جسد يكاد يفقد الحياة.
حاولنا التواصل مع فرق الإنقاذ الإيطالية لكن دون جدوى فسلطات السواحل الإيطالية تتفادى قدوم اللاجئين عبر شواطئها، ليصل بنا المطاف إلى منشأة بقلب البحر تتبع لشركة تونسية، حاولوا انقاذنا وإيواءنا عندهم حتى الصباح ليأتي قارب للبحرية للجيش التونسي لينقلنا إلى شواطئها، ثم ترافقنا منظمة حكومية محلية تعنى بقضايا اللاجئين، لتضعنا بمنازل، ولنمضي في تونس قرابة الشهرين حيث عشنا فيها تجربة اللجوء للمرة الأولى.
كانت تونس بلد متوسطية بامتياز بجوها وعاداتها، حيث كانت أقرب بطبيعتها إلى طبيعة بلدنا سوريا.
وكأنه لا بد للسوريين في ترحالهم من البحث عما يشبه بلدهم الأم بعد خروجهم من رحمها مجبرين.
عدنا إلى سوريا بخيبة وألم لما عشناه، نختبر فيها الحياة وتختبرنا دون أن ينالنا من مباهجها نصيب.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”