سيرين ملص
إرتمى على الأرض كالقتيل.
ليس جسده فقط الذي اغتيل، بل كيانه وكرامته كإنسان.
كان يتكلم كثيراً ويقص الحكايا التي لن أقدر أن أنساها ابداً.
“أنا إمي شرموطة، أنا ما عندي شرف. عم يلف سندويشة الزعتر ويقلّي إني أنا ولا شي،”
قال وهو مغمض العينين. “علقوه من اجريه ناح الباب وكل مين يفوت ويطلع يدج الباب براسه. مات سفق بواب!”
هيثم وعربجي ودروبي وناهد وأسماء كثيرة اخرى أتى على ذكرها.
بكيتهم وتألمت وأنا لم ألقاهم في حياتي.
هؤلاء مصيري وقصتي التي لم تحدث بعد ولم يقصها أحد وهو مخمور.
إستطعت أن أبكي بعد أن تجرأت على التنفس…
على الصراخ من الألم والتصديق أنني حقاً إنسان ولي بعض الحقوق…
يشد أحدنا على فمه وهو يهتف “الله أكبر حرية! حرية!”
نسرع مغلقين فمه، راجينه أن يتوقف عن الصراخ لألا يسمعه أحد، فالنافذة مطلة على الشارع رأساً.
عندما تقول كلمة “حرية” كأنك تكفر بالله؛
كأنّ الله سيرميك في المجهول، في حفرة في الجحيم عمقها أربعون سنة.
حتى لو عدت، فستكون جسداً مسخاً مشوهاً، محروقاً مثل خصيتيّ صديقنا اللتين احترقتا من لسعات الكهرباء المتكررة.
يسكت ويطيل فيسأله أحدنا: “بدك تستفرغ؟”
يتقلب حيث حملناه على فرشة في غرفة سوداء، ولكنها بدت فاقعة البياض أمام العذاب الذي كان يتدفق من شفتيه دون توقف.
رجوته: “ارتاح نام حاج بكفي! نحنا كلنا امهاتنا شراميط يا سيدي.”
كنا نكلم شبحاً جميلاً…
فراشة تبكي جناحيها الممزقين لأنها لن تطير بعد اليوم، وما الفراشة دون هذين الجناحين إلا دودة ضعيفة، مجردة من الجمال والعذوبة اللذين ينعشا القلب والروح. “
ما بقا إقدر جيب ولاد خلص أنا حجيب ولاد بس ما بقدر جيب ولاد،”
قال وقد استفحل فيه السكر.
راقبته يحترق وهو يصف كيف مات من ينعيه متفجر الخصيتين من عنف الضرب عليهما.
“ليش هو يموت وأنا لا؟!”
كأنني أستمع إلى قصة رعب تنتزع كل مخاوفي وما أحمله من عصاب في جوفي وتفرشها أمام عيني وتتوعدني بغد قميء.
سكب حنقه وعجزه في “الطشط” الذي كنا نحمله أمامه مع محتويات معدته وروحه الضعيفتين، متقيئاً عمراً من الهذيان والأوجاع والمشاهد المقرفة التي لا تريد أن تبارح أفكاره.
لم نجد من المناسب أن نخلع عنه ثيابه، فكان قد أجبر على خلعها كثيراً أثناء الإعتقال.
“يشلحونا تيابنا و يقولولنا البسوا ويلّي بيطول ليلاقي تيابه بياكول قتل بعدين لقيت بكل الأحوال رح تاكول قتل فما عدت استعجلت وانا دور عتيابي.
” كان المشهد هائلاً وصعب الإحتمال، حتى أنني لم أنتبه إلى عدسة الكاميرا المصوبة نحو الشاب السكران الذي بدا وكأنه شخصية في فيلم رعب.
كانت النوافذ المطلة على الشارع مفتوحة، وقد أخافتنا أكثرمن كل ما سلف؛ فما أكثر ما تنقله الرياح الخائنة من خلف الأسوار.
“حاطط كود لصوتي أخو الشرموطة عنده،”
قال مستذكراً أحد عناصر الأمن الذي كان يلاحقه.
قلت له متداركة: “ما تخاف الموبايل حطيناه برا. نام ارتاح!”
ثم غفا أخيراً وكان في نومه لنا رحمات.
إرتمى كلّ منا في جهة يسرد وحده ما تعذر عليه في ذلك اليوم مراجعته من أفكار وآلام.
فإن لم تفعل تراكمت عليك أوجاع لا قدرة لك عليها.
تطفو هذه الأوجاع في نهاية الأمر على السطح عندما لا تتوقعها ولا تريدها.
صدق من قال إن أصعب ما قد تقوم به نحو إنسان هو أن تتجاهله.
واليوم تتجاهلني الحياة بأسرها.
لا أحزن ولا أسعد.
فقط أعيش حياتي كقصة سخيفة لا معنى لها ولا قيمة؛ لا بداية أذكرها ولا نهاية أرجوها.
العيش أصبح شاشات أراقب من خلالها العالم وهو يمر بي فقط لأنه صادفني في طريقه.
قد يكون قراري في أن أسطر هذه العبارات محاولة يائسة، فاشلة لأشعر أنني لم أمت من الداخل وأنّ كل هذا مجرد يوم سيء للغاية.
تخرج شابة على التلفاز تتحدث عن بيتي الذي آواها عندما كانت تحاول الهرب من الشبيحة: “بيت من بيوت دمشق.”
بالتأكيد عندما أستخدم كلمة “بيتي” فأنا لا أعني أنه بيت أملكه، وأين لي بيت كهذا، مشرعة أبوابه، يلتقف من لا ملاذ له، كما قالت المرأة على التلفاز.
لاتنطفئ فيه الأنوار أبداً، فلا يخلو من صبيّة تجول بين الزرع تسقيه أو من شاب يتصفح حصاد يوم من الصور والمشاهد في زاوية ما أو من قطة تحوم حول ملجأ صغارها.
وفي حجرة صغيرة حمراء وزرقاء، إفترشنا الأرض والأرائك.
قليلون بيننا هم من كانوا يعرفون بعضهم البعض، أما الباقون، فكانوا حديثي العهد بتلك المعرفة، أي أنها قد بدأت حتماً خلال شباط/فبراير أو آذار/مارس 2011.
لكنك إذا كنت لا تعرفنا، ودخلت علينا حيث كنا نجلس ملتصقين، لظننتنا عائلة كبيرة أو رفاق الدراسة أو على أقل تقدير جيران منذ زمن طويل.
هكذا انسجمنا ونحن نشاهد التلفاز محدقين في شاشة الأمل كمن يراقب فجراً يشارف على البزوغ، تجسد في مدينة خرجت عن بكرة أبيها تهتف ضد النظام: حماه! دمشق في ساعته وتاريخه