Search
Close this search box.

العولمة .. وتأثيرها على الشعوب

العولمة .. وتأثيرها على الشعوب

شهد العالم منذ مطلع القرن العشرين تسارعاً ملحوظاً في وتيرة التكامل العالمي على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وقد برز هذا التكامل بوضوح من خلال ظاهرة العولمة التي أحدثت تحولات جذرية في نمط الحياة الإنسانية وقيمها وعاداتها.

والحقيقة أن العولمة لا تُعد مجرد ظاهرة عابرة، بل هي في جوهرها عملية تاريخية عميقة الجذور تهدف إلى دمج البشرية في نظام اجتماعي واقتصادي واحد، غير أن هذه العملية التاريخية تأخذ أشكالاً وصوراً متباينة تختلف بحسب تعاقب القوى والمصالح المسيطرة في كل مرحلة زمنية، فالعولمة إذاً حركة مستمرة لكن أدواتها ووسائلها متغيرة.

ومن أبرز ملامح العولمة طابعها الشمولي، إذ تمتد لتشمل جميع مناحي الحياة البشرية تقريباً.

العولمة الاقتصادية

على الصعيد الاقتصادي، شكّل انتشار مبادئ التجارة الحرة وإلغاء القيود على تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود أبرز ملامح العولمة الاقتصادية، مما أتاح اتصال وتداخل الأسواق العالمية فيما بينها على نحو غير مسبوق.

وقد ظهر ذلك جلياً من خلال الدور المتزايد والنفوذ المتنامي للشركات متعددة الجنسيات والاحتكارات الاقتصادية الضخمة، حيث أصبحت تسيطر على مفاتيح الاقتصاد العالمي وتمارس نفوذاً هائلاً على صناع القرار والحكومات، بحيث غدت في كثير من الأحيان أكثر قوة وتأثيراً من الدول ذاتها.

كما ساهم تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل كبير في تسهيل وتسريع حركة رؤوس الأموال والاستثمارات وتدفق السلع والخدمات عبر الحدود، مما مكّن الشركات متعددة الجنسيات من توسيع نشاطاتها بسهولة لتشمل أسواقاً جديدة في مختلف أنحاء العالم.

وهكذا، أفرزت العولمة الاقتصادية نظاماً متكاملاً متشابكاً للتجارة والاستثمار على المستوى العالمي، تتحكم به شبكة من الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات وعابرة للحدود الوطنية.

العولمة ومنطق الهيمنة الثقافية

وتقوم العولمة في جوهرها على منطق الهيمنة الثقافية من خلال السعي الحثيث لفرض نموذج ثقافي واحد على جميع شعوب العالم، ويتجلى ذلك بوضوح في النسخة الأمريكية للعولمة التي ترى في النموذج الليبرالي الغربي التجسيد الأمثل لما توصلت إليه التجربة الإنسانية.

إن هذا الطابع الشمولي ومنطق الهيمنة الملازمين للعولمة، يجعلان منها تحدياً خطيراً للهويات الثقافية عموماً، وبالأخص الهويات ذات الطابع المعياري مثل الهوية العربية الإسلامية.

فالهويات المعيارية عادةً ما تتسم بالثبات النسبي مقارنةً بالهويات السيالة، مما يوفر لها قدراً أكبر من المناعة والقدرة على الصمود في وجه العولمة ومخاطرها.

وتعدّ الهوية العربية الإسلامية هوية معيارية بامتياز نظراً لارتباطها الوثيق بالدين الإسلامي، إذ يمثل الإسلام عماد هذه الهوية ومصدر قيمها ومعايير سلوكها، مما يكسبها قدراً أكبر من الثبات في مواجهة التيارات المعادية. غير أن العولمة تشكل تحدياً خطيراً للهوية العربية الإسلامية لأنها تحمل في طياتها منطق الهيمنة الثقافية الغربية وتسعى لفرض نمط الحياة الغربي على جميع شعوب العالم.

وقد بدأت بوادر هذا التحدي تظهر من خلال انتشار بعض السلوكيات والقيم المنافية للهوية الإسلامية كالانحلال الأخلاقي وتقليد الغرب الأعمى، كما برز تحدٍ آخر من خلال محاولة فرض وجهة النظر الغربية حول قضايا حساسة مثل حقوق المرأة والأقليات وهوية المثليين.

فرص وتحديات

إن للعولمة بلا شك آثاراً إيجابية وسلبية في الوقت ذاته على ثقافات وهويات الشعوب، فمن ناحية إيجابية، سهّلت العولمة عملية انتقال المعرفة وتدفق المعلومات، كما مكّنت الناس من التعرّف على ثقافات الشعوب الأخرى والتفاعل معها بشكلٍ أكبر، هذا بالإضافة إلى إتاحتها فرصاً أوسع أمام المجتمعات النامية للحصول على التعليم ورفع الوعي لدى أفرادها، غير أنه في المقابل، تهدد العولمة بشكلٍ خطير الهويات والثقافات المحلية للشعوب بخطر الذوبان والاختفاء تحت وطأة النموذج الثقافي الغربي المهيمن عالمياً.

ويتجلى ذلك من خلال هيمنة اللغة الإنجليزية وتراجع أهمية اللغات المحلية، وكذلك انتشار القيم والعادات الاستهلاكية الغربية على حساب التقاليد والقيم الأصيلة في كل بلد، إلى جانب اختفاء العديد من مظاهر التراث من فنون وحرف تقليدية في مواجهة الثقافة الشعبية القادمة من الغرب.

إن الحفاظ على الهوية العربية في مواجهة تحديات العولمة يتطلب جهودًا منسقة؛ فمن ناحية، ينبغي بذل جهود مكثفة لتعزيز الانتماء الحضاري والثقافي لدى أبناء هذه الأمة، وغرس قيم التسامح والتعايش في نفوس الأجيال الصاعدة، بما يمكّنهم من التمسك بثوابت هويتهم مع الانفتاح على منجزات الحضارات الإنسانية المعاصرة.

ومن ناحية أخرى، يتعين بلورة استراتيجيات ثقافية فاعلة لمواجهة تحديات العولمة بطرق بناءة تحافظ على خصوصية الهوية العربية وتدافع عن ثوابتها، إلى جانب الانفتاح على العالم والإفادة من التقنيات الحديثة بما يعود بالنفع على المجتمع، مع ضمان بقاء الهوية الأصلية متماسكة وقوية.

إن الجمع بين الانفتاح والمحافظة على الذات، واستيعاب منجزات العصر مع التشبث بالأصالة، هو السبيل للحفاظ على الهوية في ظل التحديات المعاصرة.

خلاصة القول إن العولمة حملت معها العديد من التحديات للهويات الاجتماعية والاقتصادية، غير أنه يمكن مواجهة هذه التحديات بوضع السياسات المناسبة على الصعيدين الثقافي والاقتصادي، والمفتاح هو تحقيق توازن بين إيجابيات الانفتاح على العالم وسلبيات الانصهار الثقافي والاقتصادي.

أ. ميسون محمد

نشر في : مركز مقاربات للتنمية السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »