آمال شيخ دبس
في الغرفة الضيّقة جلس على حافّة سريره، وعبر النافذة الواسعة أطلّ بنظره على العالم الخارجي، كان يحدّق فحسب، وبقربه جلس صديقه الوفي كمال وهو يثرثر طويلاً محاولاً شدّ أزره: “تَذْكر طفولتنا الساذجة وكيف كنّا نطرق الأبواب ونهرب؟ كنّا نركض وقلّما أمسك بنا أحدهم وضربنا، وإذا حصل فقد كنّا نضحك رغم أن الألم كان أكبر من اجسادنا”. وعلت ضحكة هستيرية منهما، صرخ أحدهم في وجهه طالباً منه السكوت. التفت فإذا هناك تكتّل غريب من البشر معه، وقبل أن يستفسر فُتح الباب ودخل أحدهم، كان رجلاً قويّاً مرتدياً الملابس في هذا الحرّ الذي أجبرهم أن يكونوا عراة، تدلّى كرشه شاهداً على أنه يأكل الطعام وليس محروماً مثلهم. جرّه من شعره خارجاً، لم يستنكر فعله فقد اعتاد انتقاد مدرّسيه في الثانوية لتسريحته المبتذلة، أمسك بيد كمال مستنجداً به وخرج الإثنان معاً. عصبوا عينيه ثم سحبوا جسده العاري فوق كُسَارةِ الزجاج.
الرائحة النتنة ذكّرته ببقرته، بل حسب أنه في مزرعته حينما سمع الخوار والصهيل والعواء، كان مصغياً لكمال وقد ترنّم بنشيد وطنه بصوت خافت ثم همس في أذنه: “لاتعترف بشيء وتحمّل”.
سكبوا عليه الماء وبعدها أناروا جسده بالكهرباء، أغمي عليه، ركله حذاء ضخم بين فخذيه أفاق على صوت صراخه. حتماً لم يعد قادراً على التبوّل.
لازال في مزرعته فأصوات حيواناته تصمّ أذنيه، حاول لمس حماره وفشل بعد أن توالت الضربات وصعقات الكهرباء.
نحيب زوجته غطّى على كلّ الأصوات، كان على يقين بأنّها حدّثته عن أشلاء أطفالها، وجثث جيرانهم، عاتبته لأنه تأخّر في جلب الخبز لهم، إذ شعرت بالرعب حينما سقطت القذيفة عليهم، صمتت ورمت بجسدها المتعب فوق صدره. لم يستطع ضمّها اذ لم يعثر على يديه المكبّلتين. فقط شعر بجسدها يذوب فوق جسده، حينما صبّوا الزيت عليها واحترقت كما توهّم مع صدره، ناداها فلم تجبه فصرخ ألماً ثم غاب عن الوعي.
حينما استيقظ وجد نفسه في غرفته. لم يجد سريره وحتى النافذة أغلقوها بالاسمنت. كمال حاول البحث في الغرفة عن بعض الشاش والمراهم والمعقّمات فلم يجد فجلس بقربه، همس في أذن كمال: “إيّاك أن تخبرهم بأن كتل اللحم فوق جسمي هي بقايا زوجتي”.
هزّ صديقه رأسه موافقاً ثم غاب عنه عندما علا نحيبه وانهمرت دموعه.
فجأة رأى والده الفلّاح القويّ أمامه، بدا عصبيّاً على غير ما اعتاده وهو يجوب بنظراته جسد ابنه العاري موبّخاً، رسم البسمة على وجهه وهو يستمع إلى توبيخه: “حذّرتك مراراً من رفقة السوء والسياسة، ورفقة الدين،
في الابتدائي كنت مشاكساً وعدوانيّاً وفي شبابك أرخيت لحيتك وبدوتَ أخوانيّا، وبعد التخرّج من الجامعة بدأت تنادي بالحريّة، ياولدي، نحن الفلاحون أحرار، نصاحب الأرض ونسقيها حبّاً فتجود علينا بالتين والزيتون، فمالك وحريّة المدن؟”.
تنهّد والده وهو يمدّ يده إلى جيبه ويخرج سيجارة وعلبة كبريت، أشعل سيجارته ثم نفث الدخان واختفى هو الآخر.
فشل في الامساك به ومنعه من المغادرة فبكى وشهق كرضيع جائع أبعدوه عن ثدي أمه ثم غفا بعمق لأول مرة مذ سكن هذا المكان.
في هذا اليوم دخل رجل أنيق الغرفة وسلّم عليه ونقل إليه أشواق صديقه الضابط فخرج معه دون عصابة وجلس على أريكة مريحة واحتسى فنجاناً كبيراً من القهوة ثم تناول الفطور معه، فول وحمّص مع بصلة خضراء متأكد بأنها من زرع أمّه، ناقشا معاً ميزانيّة الدولة السنويّة من القطن، وعدد البيوت التي أنارها سدّ الفرات، و مشروع تلفريك يصل حلب بالمسجد الأقصى، ضحكا طويلاً قبل أن يعود أدراجه إلى صحبه.
تقوقع في الزاوية والألم ينهش عظامه، بحث بين الوجوه عن كمال فلم يجده، هي المرّة الأولى التي يبتعد عنه كلّ هذا الوقت، بدأ يضحك بشكل هستيري وينادي عليه بأعلى صوته.
أمسك بيده أحد العراة، وكان يدّعي دائماً بأنه طبيب، وهو طبعاً ليس غبيّاً ليصدّق شخصاً لايرتدي اللباس الأخضر، بل ويجلس معظم الوقت عارياً، بأنّه طبيب. قال له: “كمال موجود بعقلك وبخيالك وليس بيننا فأنت مصاب بمرض ثنائي القطب ولم تتناول دواءك مذ تمّ القبض علينا ونحن نحاول العثور على بقايا جثث عائلتنا. أسقطت الطائرة برميلاً متفجّراً قتل والدينا مع زوجتك وأطفالك”.
صمت طويلاً وكأنّ قطّاً ابتلع لسانه، فبم يردّ عليه والكوابيس تجثم فوق عقله؟
لم يعد يذكر اسمه ونظراته استقرت فوق جرذ مدّ رأسه من حفرة صغيرة، رمقه الجرذ باشمئزاز ثم عاد أدراجه من حيث خرج.
رجال كثر يشاركونه المكان بعيونٍ ساهمة شاردة، ليس لهم سوى حلم وحيد وهو رؤية الشمس والشعور بالحريّة.
دخل الحارس معلناً دوره في الموت، تمنّى لو يجد متّسعاً من الحياة ليحلم هو الآخر، باغته صديقه كمال بالظهور وتعلّق برقبته باكياً فهمس له أن يختبئ وألّا يرافقه، ثم اختفى خلف باب الموت.
تلك اللحظة غطّت على مشاعر كل من عايشه وساد صمت قاتل في زنزانة الاعتقال المظلمة.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”