أمل السلامات
أكتب هذا النص بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على زلزال سوريا وتركيا. طوال هذه الأسابيع، كنت كلّما رجوتُ نفسي أن تنام، تومض في رأسي سلسلةٌ من صورٍ ومشاهدَ ولحظاتٍ عشتها أثناء حدوث الزلزال في تركيا. أحياناً، تتداخل كلّها في رأسي دفعةً واحدة فلا أقدر على فصلها، أو تقفز فجأةً إحداها دون الأخرى مكررةً نفسها عشرات المرات. في بعضها، تغيب الوجوه والأشخاص ويبقى صوتهم، أو يغيب صوتهم وتبقى صورهم، وفي بعضها الآخَر تُجتزأ الأصوات والوجوه. وفي مراتٍ بائسة كنت أحاول الاحتيال على أقساها لتجميله، لنفيهِ، لجعله كابوساً فقط، فأفشل، أنهض، وينتابني صداعٌ شديد.
هل سأموت اليوم؟
المكان: غرفةٌ صغيرة من دارٍ عربيةٍ مؤلفة من ثلاثة طوابق في حيّ المزرلك في انطاكيا، الزمان: فجرَ يوم الإثنين 6 شباط (فبراير) 2023، الساعة 4.17 صباحاً.
يهتزُّ سريري، أستيقظ، إنها ليست هزةً صغيرةً عابرةً اعتادتها انطاكيا بين فترةٍ وأخرى، أقول لنفسي. تشتد الهزّة، إنه زلزال، أدرك الأمر. مسرعةً أقف تحت (حنت) باب غرفتي، لديّ معرفةٌ مسبقة أن الوقوف تحت الأبواب مكانٌ آمنٌ خلال الزلزال. لا تتوقف الأرض عن الاهتزاز وتصبح أشد، فأهرع من غرفتي نحو (حوش) الدار الواقع أمامها، أسقط، أتمايل يميناً وشمالاً، بصعوبة أنهض، يصبح الاهتزاز أعنف، هل سأموت اليوم؟ أُحدّث نفسي، فتخطر في بالي جارتي فاطمة وزوجها القاطنان في الطابق الأول من الدار. أصرخ، فاطمة فاطمة، أشاهدها وزوجها يخرجان إلى (حوش) الدار، دون غطاء رأسها تصرخ كالمجانين، ثم أشاهد جاري وزوجته وابنتيه القاطنين في الطابق الثاني، وابنة صاحب الدار التركي الشابة «ديلاي» القاطنة في الطابق الثالث، ينزلون جميعاً إلى حوش الدار، كلّنا بخير، نمسك ببعضنا ونخرج إلى الشارع، مازالت الأرض تهتز، نقف كلنا وأنا أحتضن «ديلاي».
تنقطع الكهرباء كلياً في الوقت الذي هدأت خلاله الأرض قليلاً، نظرت في العتمة يميناً وشمالاً لأشاهد البناء المقابل لدارنا قد سقط بأكمله عليها، فتهدَّمَ جدار غرفتي المطل على الشارع بأكمله، لا يهم، ابن جيراننا كان يستغيث: «يا جماعة أريد ضوءاً، أيُّ ضوء، والدتي تحت الأنقاض»، أترك ديلاي، ودون أن أدري أيّ قوةٍ أصابتني، أعاودُ الدخول إلى ما تبقى من أنقاض غرفتي. وجدت هاتفي النقال مازال سليماً، انتشلته وركضت نحو ابن الجيران أُناوله إياه ليستخدم ضوءه في البحث عن والدته التي تمكن من سحبها.
ساحة الانتظار
تتساقط الأمطار بشدّة، سكان حارتي الناجون جميعهم في الشارع يصرخون، الفوضى عارمة واللغة العربية تختلط باللغة التركية حتى لم أعد أفهم شيئاً. تنهار جارتي فاطمة وتطلب من زوجها أن تضع شيئاً على رأسها، ينهرها: «ليس وقت غطاء رأسك الآن». تهتز الأرض من جديد، يقول أحدهم: «ليتجه الجميع نحو الساحة الموجودة خلف الحارة، ربما تحدث هزّةٌ جديدة». نمشي أنا وجاري وزوجته وطفلتاه وديلاي وجارتي فاطمة، التي تمكّن زوجها من إحضار غطاءٍ لرأسها، نحو الساحة الموجودة خلف حارتنا، أشاهد البيوت تنهار، ألمح في العتمة رجالاً ونساءً وأطفالاً يهرعون باتجاه الساحة بثياب النوم الخفيفة، بعضهم حفاة، وبعضهم ينتعل شحاطة منزلية، أنا واحدة منهم، كنت أنتعل «شحاطة بلاستيك».
كان مشهد الساحة بعد ما يقارب الساعة من حدوث الزلزال، إذا ما أردت تصويره من الأعلى، كالتالي: تجمَّع مئاتٌ من السوريين والأتراك القاطنين في حاراتٍ فرعية قريبة من الساحة، وقفنا في مجموعاتٍ تحت أمطارٍ غزيرة ودرجات حرارةٍ تقارب الصفر، أحضرَ بعض الرجال حطباً وأضرموا النار في (سطولٍ) جاؤوا بها من منازلهم، كما وجدوا في الساحة حاوية نفاياتٍ كبيرة، أفرغوها وملأوها بالحطب وأشعلوا فيها النار ليلتفَّ حولها عددٌ من السوريين والأتراك. بعض الأشخاص التفَّوا بالبطانيات بينما حمل آخرون مظلاتٍ كانوا قد أحضروها من منازلهم، وهناك عائلاتٌ لفَّت أطفالها بالأغطية والبطانيات وسلّمت أمرها للمطر والبرد، بينما جلس آخرون في سياراتهم المركونة سلفاً في الساحة، ونصب البعض خياماً من شوادرَ أو أكياس نايلون علّها تقيهم سلاسل المطر المنهمرة، إضافةً إلى باص نقلٍ داخلي يعمل عليه سائقٌ تركي، فتح السائق الباص ودخل إليه نساءٌ وأطفالٌ أتراك وسوريون ليحموا أنفسهم من البرد والمطر.
تهدأ أصوات الناس قليلاً، تبقى الأرض تهتزُّ بصورةٍ أقلُّ عنفاً، ويصبح الجميع مشغولين بالبحث في هواتفهم النقّالة عن إشارة إرسال، ليُطمئِنوا أهلهم وأصدقاءهم، أو يَطمئنّوا عنهم، الكل يسأل: «هل يوجد تغطية، هل انقطع الإنترنت؟»، كنت أنا قد أرسلت رسالةً عبر تطبيق واتساب إلى أهلي قبل نصف ساعةٍ كتبت فيها: «أنا بخير» لتغيب بعدها عن هاتفي شبكة الإنترنت وإشارة الاتصال.
نتحلّق أنا وفاطمة وزوجها وديلاي حول سطلٍ أوقدنا فيه النار تحت كيس نايلون نصبناه فوقنا على أمل أن يَرُدّ قليلاً من الأمطار المنهمرة بشدّة. أخبرنا بعضنا أننا بخير، وحاولنا، فاطمة وأنا، أن نستجمع كلَّ المفردات التي نعرفها باللغة التركية لنخبر ديلاي كيف عشنا الرعب ذاته في سوريا خلال قصف الطيران، ونضيف أننا شهدنا دمار منازلنا كما فعل الزلزال بمنزلها.
انتظار الصباح والجلوس في العراء تحت المطر كان قرارَ الجميع، فالأرض مازالت تنذِر بالسوء. انهمك الجميع في استعجال الوقت حتى يطلع الصباح.
صباح الكارثة
في الصباح، تقول فاطمة لي: «لم أعد أشعر بقدمَيّ، إنني أتجمد»، فأرد: وأنا أيضاً. أنهض؛ فأشعر بجسدي متيبساً وقلبي يكاد يتوقف من البرد، فبيجامة النوم التي أرتديها قد تبللت بكمياتٍ كبيرة من ماء المطر. أُحرِك قدمي وأمشي مستغلةً توقف المطر، فأسمع أصوات العويل تأتي من الحارات، يقول زوج فاطمة: «بدأ الناس يفقدون أحبتهم تحت الأنقاض»، قالها وعيناه محمرّتان توشكان على البكاء؛ فقد ذهب قبل طلوع الصباح ليتفقد أخاه وعائلته القاطنين في حارةٍ قريبة من حارتنا، وأخبرَ فاطمة بعد عودته: ناديت على أسمائهم جميعاً، لم يُجب أيٌّ منهم عليّ يا فاطمة، ربما غادروا البناء لمكانٍ آخر، ربما هم في الحديقة المقابلة لحارتهم، ربما استطاعوا الفرار بسرعة كونهم يسكنون في الطابق الأرضي، يارب، بناؤهم مدمرٌ بالكامل، طوابقه السبعة مطويةٌ كصفحات الدفتر المطوي يا فاطمة.
نعم، كصفحات الدفتر المطويّ كانت بعض الأبنية، شاهدتها وأنا أمشي بين الحارات القريبة من الساحة في الصباح. الدورُ العربية كدارِنا تهدَّمت في غالبيتها، بعض الأبنية مالت باتجاه اليمين أو اليسار، وهناك أبنيةٌ تهدّمت طوابقها الأولى، وأخرى تصدّعت وتشقّقت جدرانها.
أما سكان الحارات والأحياء السوريون والأتراك، فكانوا بحالةٍ هيسترية في الصباح، يركضون ويخبرون بعضهم عن أحوال معارفهم وأقاربهم في الحارات الثانية. لم أكن أفهم اللغة التركية بشكلٍ كافٍ، لكن جيراننا السوريون الذين كانوا بجانبنا قالوا إن أبو إبراهيم فَقَدَ كلّ أفراد عائلته، لم أعرف من هو أبو إبراهيم. شاهدت نساءً تركيات يبكين بشدّة في البيت المجاور للساحة، إحداهن سقطت على الأرض ليحملها رجل ما.
«أين الإسعاف، أين فرق الدفاع المدني؟» يصرخ أحد الرجال السوريين الواقفين في الساحة، فيرد عليه آخر: «أغلب الحارات مغلقة بسبب انهيار المنازل، ربما يتأخرون في الوصول إلينا وإلى الناس تحت الأنقاض».
الأنين، الصراخ، وقلة الحيلة
تنقشع السماء قليلاً، الجميع يسأل الله أن تسطع الشمس، علّهم يشعرون بالدفء أو يعيدون نصب شوادرهم بطريقةٍ أفضل، وكي يستطيع الكثيرون منهم إيجاد عائلاتهم، أصدقائهم، وأحبتِهم تحت الأنقاض. أَنظر إلى هاتفي لأجد الساعة قد قاربت العاشرة صباحاً. أمشي باتجاه حارةٍ على يسار الساحة بحثاً عن مكانٍ أقضي به حاجتي، فأشاهد بيتاً على يمين الحارة طبّقه الزلزال كصفحات الدفتر، يجتمع بالقرب منه رجالٌ أتراك يحاولون سحب رجلٍ من تحت الركام، كنت أسمع أنينه وشاهدت نصف جسده تحت الركام؛ أمضي مذهولةً.
بعد منزلين أو ثلاثة أشاهد بناءً على يمين الحارة أيضاً، فهكذا هي أنطاكيا، خاصةً حي المزرلك، تنتصب فيها الدُور العربية والأبنية الطابقية جنباً إلى جنب، أسمع صوت فتاةٍ صغيرة تصرخ باللغة التركية (anne، anne) أي «أمي، أمي» بالعربية. وقفت قليلاً لأشاهد سيدتين تنظران إلى قبو البناية، المكان الذي يخرج منه صوت الفتاة، إحداهن كانت تتحدث مع الفتاة بنبرةٍ مليئةٍ بالهلع، استخدمت يديها كثيراً وكأنها تشير إلى الفتاة لتفعل شيئاً ما. تقدم شابٌ نحو السيدتين وتحدث معهما باللغة التركية بنبرة صوتٍ صاخبة وحزينة، ثم جلست السيدة على الأرض وبدأت تبكي بشدة، والشاب حاول تهدئتها.
في الجهة المقابلة لهذا المشهد اجتمع عددٌ من الرجال والنساء أمام بيتٍ مهدّمٍ بالكامل، قال أحدهم بلهجة أهل أنطاكيا العربية: «يجب أن نتعاون لإخراج من هم تحت الأنقاض، يبدو أن فرق الإنقاذ لن تدخل اليوم». قلت في نفسي: نعم، الحق معه، لماذا لم يشكل الناس حتى اللحظة جماعات عملٍ مدني؟ لماذا يبدو أغلب الناس مشلولين؟ فأردُّ على نفسي وأنا أشاهد حجم الدمار من حولي: لعلّهم لم يستيقظوا من صدمتهم بعد. يبدو أنني أنا أيضاً لم أستيقظ من الصدمة، أشعر بالشلل أيضاً أمام هول المشاهد الكثيرة.
«اصمدي قليلاً، سأخرجك من هنا» هذا ما كان يقوله شابٌ سوري لإحداهن في بيتٍ على يسار الحارة، كان صوته حزيناً جداً. مشيت بسرعة محاولةً اجتياز هذا المشهد. إني أفقد طاقتي يا رب، كنت أقول في نفسي، وأعود أدراجي نحو مكاني مع فاطمة وزوجها وديلاي بعد أن قضيت حاجتي في طابقٍ أرضي لأحد الأبنية التي تصدعت جدرانها. يغمرني الحزن، وبردٌ قارسٌ بدأ يأكل قدميَّ وخاصرتي ويطرق رأسي حتى.
أطول ليلة في حياتي كلها
تسألني فاطمة بعد أن عدت إن كنت على استعدادٍ للذهابِ معها إلى دارنا لتبدّل ملابسها وتحضر بطانيةً جافة، فأخبرها أنه علينا الذهاب والعودة بسرعة لأن الهزّات الإرتدادية لم تتوقف بعد. حارتي حارةٌ شعبية عشوائية، لا يوجد فيها أبنيةٌ عالية بل بيوتٌ عربيةٌ أعلاها يتألف من ثلاثة طوابق، يقطن فيها أتراكٌ يتحدثون اللغة العربية بغالبيتهم، ومستأجرون سوريون حبّذوا السكن فيها لأن الإيجارات منخفضة. عندما وصلنا إلى الدار كان جدار غرفتي المطلُّ على الحارة قد تهدّم، كما تهدّم جزءٌ من الجدار المطلِّ على فسحةٍ خلف الدار. خزانتي سقطت مشكلةً مثلثاً مع سريري، الأمر الذي مكنني من سحب حقيبةٍ أضع فيها شهادتي الجامعية وأوراقي الثبوتية، وأيضاً حقيبة يدي التي أضع فيها (كملكي/ الهوية التركية). أما فاطمة، جازفت ودخلت منزلها، بدّلت ملابسها بسرعة واستطاعت الوصول إلى ربطةِ خبزٍ في مطبخها، كما تمكنّا من إحضار بطانيةٍ وغطاءٍ آخر من الصوف لنتدفأ به خلال الليل، فقد أُوقّنا أن أياً من فرق الدفاع المدني أو فرق الإنقاذ لن تدخل اليوم.
قرابة الساعة الواحدة ظهراً، تلبّدت السماء بالغيوم، وصرنا نسمع صوت رعدٍ قوي، بدأت الأرض تهتزّ، وراح أغلب من في الساحة يصرخون: «الله أكبر، الله أكبر»، ازداد اهتزاز الأرض وسمعتُ الرجال يقولون: «إنها ليست هزةً ارتدادية، إنه زلزالٌ ثانٍ»، انتابني شعورٌ بأن الأرض ستنشقّ وتبتلعنا جميعاً. انفصلتُ عن نفسي ولم أعد أشعر إلّا بالهلع. هي ثوانٍ لم أعرف عدّها إلى أن توقَّفَت الأرض، لتتساقط الأمطار بعدها بشدة. حرفياً لم أتمكن من تحريك قدمي خطوةً واحدة كي أجلس تحت الشادر الذي نصبناه، فقد احتجت أكثر من عشر دقائق لأستوعب ما كان يحدث.
بعد غياب الشمس بقليل، فقدنا الأمل بقدوم أحدٍ للمساعدة، كما فقدنا الشعور بأطرافنا من البرد، وبدأنا نتحضّر لقضاء ليلةٍ أخرى في الساحة مع الآخرين تحت المطر. في هذه الأثناء، كان زوج فاطمة يحاول أن يُبقيَ النار مشتعلةً، ويأمل أن يصمد كيس النايلون والشادر الذي نصبه فوقنا أمام المطر المنهمر كالسيل. التفَفنا جميعاً مرةً أخرى حول (سطل) النار ما عدا ديلاي، التي جاء والداها لاصطحابها معهما إلى ضيعتهم ألطنوز. «تعالوا ناخد صورة سيلفي» أقول لفاطمة وزوجها، يضحكان ويوافقان، كنا نحاول مواساة بعضنا البعض ونحمد الله أننا مازلنا على قيد الحياة، خاصةً وأننا كنا نسمع باستمرارٍ عن جارٍ فقد عائلته، أو عن عائلاتٍ مازالت بأكملها تحت الأنقاض.
بجانبنا، نصب سوريون شادراً كبيراً جلس فيه أطفالٌ ونساءٌ ورجالٌ كثيرون، يبدو أنهم من عائلةٍ واحدة، سمعت شابين يافعين يقولان: «أنطاكيا مهدّمة بالكامل»، سألتهما إن استطاعا الخروج ومعرفة الوضع في أنطاكيا؟ فأجابني أحدهما: «نعم، سوق حلب مهدّم، المراكز التجارية والجوامع وكلُّ الأبنية الموجودة على طرفي شارع السيارات الرئيسي للمزرلك مهدّمة، أنطاكيا كلها مدمّرة».
نأكل من الخبز الذي أحضرته فاطمة من المنزل، وتنطفئ هواتفنا المحمولة، إذ ينتهي شحنها. أساساً وجودها وعدمه واحدٌ في ظل غياب شبكة الإرسال بالكامل مع حلول الظلام، نحاول الإلتصاقَ بسطل النار لدرجة أنّي وددت الجلوس فيه، خاصةً وأن ثيابي كانت رطبةً جداً بفعل المطر. خاب أمل زوج فاطمة بصمود الشادر الذي بدأ ينهار بفعل المطر الغزير، فطلب مني ومن فاطمة أن نصعد إلى الباص ونقضي الليلة فيه حتى الصباح، حيث قرّر أن يُخرج دراجته النارية من المنزل لنغادر بها إلى ضيعة صهره التركي في في الصباح.
نمت جالسةً على أرض الباص في المساحة الضيقة بين الكراسي، لم أكن وحدي في تلك المساحة، كان هنالك فتيات وفتيان سوريون وأتراك، نمنا متراصين بجانب بعضنا البعض، ونامت فاطمة بجانبي. لم أتضايق كثيراً من أقدام الأطفال والنساء والرجال التي كانت تدفعني أو (ترفسني)، بقصدٍ أو بغير قصد، أثناء عبورهم من فوقي أو تبادلهم المقاعد فيما بينهم أو مع أشخاصٍ آخرين دخلوا الباص. أغمضت عينَيَّ بشدةٍ غيرَ مكترثةٍ لأقدامهم، مواسيةً نفسي بأني سأغادر المكان غداً، وأجزم أن تلك الليلة كانت أطول ليلةٍ في حياتي كلها.
وداعاً AN…..
كمن يخرج من المعتقل؛ خرجت أنا وفاطمة من الباص قرابة الساعة السادسة صباحاً. لم نجد زوجَها فور خروجنا، ذهبت فاطمة للبحث عنه بينما وقفتُ أنا أمام الحاوية التي أُوقدت النار داخلها، فالبرد كان شديداً. رجلٌ سوري في الستين من عمره كان يأكل الخبز جانب الحاوية، لم يغادر مكانه قرب الحاوية أصلاً منذ ليلة الزلزال الأولى، أحضر كرسياً وجلس بجانب الحاوية حاملاً مظلّته، كان وجهه ملطخاً بالدماء نتيجة سقوط حجرٍ على رأسه أثناء هروبه مع عائلته من منزله ليصاب وجهه إصابةً شديدة. كنت أراقبه حين رفض طلب ابنته وزوجها بالدخول معهما إلى بقايا منزلهما المطل على الساحة، لقضاء الليلة الأولى والثانية واتقاء المطر والبرد، فما كان منهما إلا أن أحضرا بطانيةً ودثّراه بها وتركاه أمام حاوية النار:
– «اتفضلي، كلي قطعة هالخبز» قال لي.
– «مو جوعانة، يسلمو» أجبت.
– «كُليها، كُليها، منشان يظل عندك حيل» أصرّ عليّ.
الرجل الجالس تحت المظلة وقرب النار
الزلزال الثاني أسقط عدداً كبيراً من البيوت والأبنية التي كانت متصدّعة ومتشقّقة بسبب الزلزال الأول، فازدادت كمية الركام فوق الأشخاص العالقين تحت الأنقاض. عُدت أنا وفاطمة مرةً أخرى للدار من أجل إحضار قطعٍ من الملابس وأغراضٍ لنأخذها معنا إلى الضيعة، فوجدنا مدخل الدار وسورِه قد تهدّم بالكامل، كما لاحظنا تهاوي شرفات الطابق الثاني، وازدياد شقوق الجدران في غرفتي وفي منزل فاطمة. كنزةٌ من الصوف وبنطالٌ وشالٌ صوفي هو ما أحضرته من غرفتي فقط. وضعتها في حقيبة أوراقي الثبوتية ومضينا أنا وفاطمة نجتاز الأنقاض لنصل إلى شارع السيارات الرئيسي، المكان الذي كان ينتظرنا فيه زوج فاطمة مع دراجته النارية التي مرّرها بصعوبةٍ فائقةٍ من فوق الأنقاض. قبل أن نغادر، دار حديثٌ مع جارتنا أم يوسف، وهي سورية الأصل متزوجةٌ من رجلٍ تركي منذ أكثر من 40 عاماً، كان قد تهدّم منزلها بالكامل.
– «لوين رايحين، على سوريا؟» تسألنا أم يوسف.
– «إلى ضيعة صهر زوجي» تُجيبها فاطمة.
– «إرجعوا لَسوريا، أحسن لكم، ما عاد ظل إلكم مكان بتركيا» تبتسم أم يوسف وهي تقول لنا ذلك.
لم أعرف القصد وراء كلام أم يوسف، هل كان دافعها عنصرياً؟ أم أن حجم الدمار والكارثة جعلاها تعتقد أن السوريين فقدوا سكنهم وأعمالهم ولم يعد لهم مكانٌ في تركيا، لذلك ستكون سوريا بحسب اعتقادها أفضل لهم؟ أم أن ما قالته كان بلا قصدٍ أو دافعٍ معين؟
كان شارع السيارات الرئيسي في المزرلك مكتظاً جداً بالسيارات والناس، تشعر لوهلةٍ أن الجميع لا يعرف أين يذهب، ضوضاءٌ وفوضى، ومبانٍ متهدّمة على طرفيّ الشارع وتركسات البلدية تجتهد في تنظيفه من الركام. شاهدت عيوناً كثيرةً تبكي، وأطفالاً يلبَسون (شحاطات) وملابس خفيفة، يركضون حاملين أكياس نايلون مملوءةً بمعلباتٍ وبسكويت وعصائر، أخذوها من المحلات والمجمّعات التجارية التي تهدّمت وأصبحت بضائعها في الشوارع. لم يكن الأطفال وحدهم، بل كثيرون من النساء والرجال كانوا يدخلون إلى محلات الملابس أو محلات القطع الكهربائية أو محلاتٍ أخرى هدمها الزلزال، ويحملون ما يستطيعون من أغراضها. أي مفارقةٍ تلك، فخلال ثوانٍ، هدم الزلزال ما بنيناه واقتنيناه عبر سنوات، أصبحنا، نحن وأغراضنا وأشياؤنا، مجرد أنقاض. كيف يتمكّن البشر من إعادة الكرّة سريعاً واقتناء تلك الماديات. أحد الرجال كان يحمل مروحةً، أخذها من محلٍ ما، أشهَق مستغربةً وأقول لفاطمة: ياله من مجنون، مروحة! ماذا سيفعل بها؟
كان موجعاً وجه الشاب السوري صاحب الدكان الذي كنت أشتري منه الدخان المهرَّب، يرتدي قميصاً من القطن الخفيف وشحاطةً جلدية، عيناه متهدّلتان، وكذلك ابتسامته. كان يقف وينظر كما كنت أنا أنظر إلى جموع الرجال والنساء الذين يتدافعون أمام محلٍّ للثياب الرياضية تهدّمت واجهته بفعل الزلزال، ويحمل كلُّ واحدٍ منهم ما تمكّن من حمله من بناطيل وبيجامات وأحذية رياضية. أردت أن أقترب منه وأسأله: هل فقدت أحداً من عائلتك؟ لكنه ضاع بين الجموع، وأبعدني عنه صوت زوج فاطمة الذي طلب منا الإسراع لركوب الدراجة النارية.
انحشرَ ثلاثتنا فوق الدراجة النارية، وطلب منا زوج فاطمة أن لا نأتي بأيّة حركةٍ أثناء الرحلة كي لا نقع جميعاً من فوق الدراجة.
أحفظُ أغلب شوارع وحارات أنطاكيا عن ظهر قلب، لقد مشيتها كلّها قبل الزلزال على قدمي: أفق بترول وشارع زبيدة هانم وحي إكنجي وشارع مشفى الدولة القديم وطريق منطقة دفنى، كلّها كلّها، بأبنيتها ودُورِها وبيوتها كانت مدمرة. تؤلمني قدماي وأشعر كأنهما قد شلّتا، ليس بسبب جلوسي على الدراجة النارية التي مرّت بنا بهذه الشوارع أو بالقرب منها، بل بسبب روحي الشاردة في تلك الشوارع، والتي راحت تبحث عن وجوهٍ عرفتها هنا: «ناهد وبناتها، إيهاب ورفاقه، منى وعائلتها، أحلام وطفليها، بدور وابنتها، كثرٌ كثر»، أود لو أنزل وأتفقدهم واحداً واحداً. أرسلت لهم رسائل واتساب ورسائل نصية من هاتفي عندما التقط إشارةً لاسلكية، لكني لم أسمع منهم أي شي، وهاتفي انتهى شحنه وانطفأ.
قبل خروجنا من أنطاكيا باتجاه كرخان، شاهدت مجمّعاً سكنياً يُسمّى مجمّع الـ 600، عُرف عنه بأنه مجمعٌ سكني راقٍ تم بناؤه حديثاً: «يااااخ، شوفوا مجمع الـ 600، ولا بناية فيه صاغ سليم» تشير فاطمة لي ولزوجها لنشاهد حجم دمار المجمع. على مدخل أنطاكيا من جهة طريق كرخان، على منصّف الطريق، وَضعت البلدية كلمة ( ANTAKYA) بحروفٍ كبيرة، عندما وصلنا إليها لم يتبقّى من الكلمة سِوى حرفي (AN)، فيما سقطت باقي الحروف، نعم لم يبقَ منك يا أنطاكيا سوى القليل. وداعاً (AN) أقول في نفسي، ويعاودني قلقي القديم: أين سأذهب؟ أيُّ مكانٍ سأنتمي إليه؟ هل سأتمكن يوماً من الشعور بالاستقرار، أنا ومئات آلاف السوريين الذين كانوا يقطنون مناطقَ دمّرها الزلزال في أنطاكيا وغيرها؟
عن موقع “الجمهورية”