نهاد عاصي
لن يفيد الإنكار بشيء، بات الفارق واضحا بين عيشتين، نمت جدلية صراعية بين أهل الداخل وأهل الخارج، والمجتمع السوري لم يعد واحدا خارج سورية وداخلها أيضا، تغيرت حياة بعض الأسر التي تعيش داخل سورية، التغير كان واضحا على النساء تحديدا، شكل اللباس ونوعه، الأكل، المواصلات، الزيارات والضيوف، والجوالات باتت علامة فارقة على الاختلاف.
طالما اشتكت صباح من الفقر، سنين من التهجير وغياب المعيل وتبدل البيئة الاجتماعية وعنوان السكن، حتى مكونات طاولة الفطور تغيرت، غابت عنها الخضار الطازجة والحليب المكفول، وتأمين الخبز عدا عن جودته المتراجعة بات عملا شاقا يتطلب ساعات طويلة من الانتظار على أبواب الأفران.
سافر ولداها إلى ألمانيا، اطمأن قلبها، لكن رسائل التخبط في مجتمع جديد أرهقتها، خافت عليهما من كل التبدلات الطارئة، وخاصة تعلم اللغة الألمانية الصعبة، وهما شبه أميين بعد انقطاعهما الكامل عن المدرسة.
ستة أشهر لا غير، كانت كفيلة بتبدل الأحوال وتحسنها، بدأت المساعدات تهل على صباح، في كل دفعة كان ولداها يوجهان الأم كيف تسدد ولمن، ديون مستحقة وأصحابها يقرعون الأبواب طلبا لها، يكررون الاتصالات المطالبة بالاسترجاع، بدأت صباح تتنفس الصعداء وكومة الديون تنزاح عن صدرها وصدري ولديها، في كل إرسالية حصة لها، لدواء الغدة والضغط، لشراء فروج أو كيلو من اللحم، عيدية للأخوة والأخوات الصغار، عيدية للجدة والعمة والجارة وبنت العم، مبالغ صغيرة جدا لكنها ذات قيمة عالية بالعملة المحلية، تغيرت نظرة المجتمع المحيط تجاه صباح، الجميع يردد: “الحمد لله ولادها عوضوها، طلعوا ملاح معها، لم ينسوا الدم والعشرة وصلة الرحم”.
لكن علاقة مرتابة غمرت مشاعر صباح، بات الجميع يعتبرها حصالة للاقتراض أو لطلب المساعدات، لكنها رتبت ذلك بحذر، انسحبت من العلاقات التي اعتبرتها مصلحية فقط، أعادت قواعد التوزيع، استبدلت النقود بالأدوية والمساعدات العينية وخاصة للكبيرات في السن من القريبات، كما أنها واجهت الرغبة المتنامية عند أولادها بالإسراف بعقلانية وحكمة.
بعد لحظة تفكر عميق، قررت صباح إدارة حياتها الجديدة، افتتحت متجرا صغيرا لبيع الملابس القطنية الداخلية، حققت دخلا ثابتا لعائلتها وأصرت على تزويج ابنتيها إلى ألمانيا، قالت لهما: (روحوا وعيشوا)، تحولت صباح إلى قصة نجاح في محيطها الضيق، تؤلمها الوحدة وغربة أبنائها الأربعة، لكنها تعد نفسها بسفر قريب للالتحاق بهم/ن بشكل نهائي.
على الضفة الأخرى نموذج مختلف لسيدة فقدت زوجها وسافرت إلى فرنسا، عملت بعد وصولها بمدة قصيرة كمساعدة طاهية في أحد مشاريع الطهي.
تنبهت لقوة العمل المجتمعي وجدواه المباشرة على تكيفها أولا وعلى تقبل المجتمع لوجودها ثانيا، شاركت بكافة النشاطات المدنية، وأدمجت بناتها الثلاث في المجتمع، موسيقا وسباحة ورحلات، كانت مضطرة لإخفاء صور البنات خاصة أثناء النشاطات عن العائلة، ثمة صورة نمطية تراقب، وتدافع عن نفسها بشراسة، أضحكتها بشدة مشاريع الزواج التي تقدم بها أقرباء، عازبون ومتزوجون، كانوا يخططون للسفر عبر أي وسيلة ممكنة، وكانت أماني إحدى هذه الوسائل، رفضت كل العروض، وبدأت تتدرب على عمل جديد بعد تراجع عوائد عملها في الطهو وازدياد عدد العاملات والعاملين فيه، اشترت لنفسها قدورا متطورة تطبخ بزمن وجهد أقل، كل شيء قد تغير، وأماني تغيرت بفعل قوة الواقع والحياة في المكان الغريب والجديد.
تقول أماني مبررة لأختها سر تبدلها الجذري الذي لامتها عليه بشدة، ادخلي إلى أي مجموعة من مجموعات السوريات في أوروبا، ستجدين العجب والعجاب! والأهم أن جميع العضوات لم يعدن سوريات الهواجس، الحياة تتطلب منهن الاندماج في كل التفاصيل وأصغرها، نحن نعيش هنا في بلاد صفتها الغريبة لكنها بلادنا الحالية والمستقبلية.
أكدت اماني لشقيقتها أنه لا عودة إلى زمان ومكان باتا من الماضي، طالبة من شقيقتها إيصال رسالة خاصة لأمها:( نحن ندافع عن وجودنا بالاندماج).
في البلاد الجديدة والغريبة، تزدحم المشاعر، يخاف الجميع من كل جديد، والتحول الفجائي ما بين مكانين متناقضين يعيش كل منهما أجواء فائقة في الحرمان والخوف وفي الوفرة والأمان، يدفع الشخصية للاهتزاز، والصورة النمطية تهتز أولا، لكن تفاصيل اللاحقة تساهم بتثبيت القوة أو بإضعافها.
تخاف أماني من كل اتصال يردها من سورية، ثمة رهاب عاطفي يفرضه الخوف من الفقدان، فقدان الأحبة والأهل وربما مرضهم وازدياد احتياجهم للدعم المباشر وخاصة كبار وكبيرات السن والمرضى والعاطلين عن العمل، وتخاف أيضا من الاتصالات التي ترد لبناتها الثلاث، بنات العم والخال وقد دفعهن آباؤهن للاتصال لتهديد أماني بعقاب جاهز بعدما غيرت شكل حياتها وباتت مستقلة بشكل تام، والأهم أنها بعيدة، لكن البعد لا يحمي من الاتصالات المتكررة والتي تحمل بين كلماتها تهديدا مبطنا أو مباشرا، أو التي تطلب الرشى على شكل حوالات أو هدايا أو طلبات للسفر، وذلك للسكوت عن واقع الحياة الجديدة التي تعيشها أماني وبناتها، حياة مناقضة ومخالفة للأعراف السائدة في بلدها الأم، حياة ترفض وتخالف تحكم العائلة بحيوات النساء وخاصة الأرامل منهن، تحاول المتصلات استدراج بنات أماني للبوح بيومياتهن، بصورهن في صف الباليه ودورات الرسم، تتغير العلاقة هنا، العواطف لا تفيد ابدا، تشعر أماني بأنها محاصرة حتى في مكانها الجديد، وتسعى للاندماج فيه أكثر لتصبح أكثر قدرة على المواجهة، وإن لم تنجح المواجهة فالانسحاب سيكون سيد الموقف، حتى الانسحاب العاطفي قد يكون بوابة للانسحاب الكامل والنهائي من ربقة التحكم ومن الزمان والمكان والهوية.
ما بين الداخل والخارج، ثمة عوالم جديدة ترسم خطا جديدة لحياة متخبطة لكنها تبحث عن الخلاص من التخبط والركون إلى الاستقرار، تتفاوت القدرات وتتفاوت النتائج، تتحول الحياة إلى معارك متعددة لكنها على الهامش طالما أن النساء بتن الطرف الأقوى بالمعادلة، هي الحياة فرص للنجاة ولو بمحل صغير تأسس بفضل منح متكررة ومحبة، أو بجنسية جديدة في بلد جديد، طوبى للنساء ينزعن الخوف من قلوبهن كما الشوك من مسارات الطرقات الوعرة، ويمضين نحو قوة لا يهزها الوعيد ولا الرجاء المغلف بالاحتياج، قوة لا تلين ولا تنهزم.
اللوحة للفنان “صفوان داحول”
خاص بـ”شبكة المرأة السورية“