دمشق – سلوى زكزك
تمر السنوات مسرعة، تصل النساء فجأة إلى سن يحتجن فيه العناية والهدوء والراحة، تخاف غالبية النساء من هذا الاستحقاق، فجأة يكتشفن رجفة الأيدي والتعثر أثناء السير، ونسيان إقفال مفتاح الغاز وربما إبقاء صنبور المياه مفتوحاً، والزمن هنا مجرد لحظة انتباه للتبدلات الحاسمة وغير القابلة للتراجع، يلي الانتباه اعتراف ضمني من النساء، لكن المصيبة عندما يسعى الجميع للتأكيد على هذه التبدلات بشكل دائم على شكل أوامر أو التزامات صارمة لا مجرد الإشارة إليها أو التعامل معها بأنها نتيجة طبيعية لا تغير من طبيعة الروابط الأسرية ولا تنفي الحب أو تلغيه.
ثمة عنف خفي، غير معلن، ويتم التعامل معه انطلاقاً من قاعدة الكحل أحسن من العمى.
في زاوية الغرفة ثمة جسد مغطى وكأنه ميت مسجى، ترقد سميرة هنا، تحت الأغطية السميكة، أعلنت أنها لن تكلم أحداً ولن تتناول أي حبة دواء بعد اليوم، لقد فرض عليها ابنها خلع أساورها الثلاثة من يدها وباعها ليجمع كلفة سفر ابنه إلى تركيا، اعترضت بشدة ورفضت الأمر، شكته إلى أخيها الأكبر وإلى والد زوجته، الجميع كان موافقاً ضمنياً على أن الحفيد أولى بثمن الأساور، فالجدة ملزمة بابنها وبأبنائه، والحال ضيقة والوفرة متعثرة، قالت سميرة: إن الأساور لكبرتها، لتنفق على نفسها ، لتشتري دواءها، لكن لا أجوبة ولا تعاطف، ولا حتى وعود بتغطية نفقات كل ما ذكرته، وأكبر مثال على بداية الحرمان هو امتناع ابنها عن شراء بخاخ الربو الذي ارتفع ثمنه ثلاثة أضعاف بذريعة عدم امتلاك هذا المبلغ.
قرار اتخذته العائلة، أجبروا سميرة على خلع أساورها وجرحوا يدها وهم يسحبونها بشدة، بكت بحرقة وشتمتهم في قلبها، قررت اعتكاف الصمت والإضراب عن الطعام والدواء، وانتظرت موتها مرحبة به، بعد أن ضاقت ذرعاً بحياة ذليلة مسلوبة الإرادة، كانت غير قادرة حتى على النظر في وجوههم وكأنهم غرباء.
تتكرر الواقعة مراراً، على الجدة مراضاة الأحفاد والتخلي عن كل ما تملك ثمناً للمأوى والخدمة، هي مجردة من عوامل القوة، لا منزل خاص بها، لا ضمان صحي، ولا راتب شهري، في ظل غياب العلاج المجاني لكبار السن وفي ظل حالة شبه عامة من العوز، لدرجة يغدو كل مبلغ يصرف على المسنين وكأنه تفريط بأمان العائلة وهدر للموارد.
تظن الغالبية أن العنف هو فقط التصرفات العنيفة الظاهرة للعيان والتي تحدث أذى واضحاً على الجسد، لا أحد يعتبر الحرمان وغياب الحماية النفسية والاقتصادية وفقدان الأساسيات وأولها وأهمها الخصوصية عنفاً، وغياب الخصوصية عنف جماعي يساهم الجميع في تثبيته، فطالما ردد الجميع ان حياة كبيرات السن قضية يملكها الجميع وخاصة أفراد العائلة، والمصيبة أنهم يديرونها بعنجهية وبتغييب لأسس الحقوق الفردية.
فجأة ينهض جدار صلب وعملاق يحجب المشاعر ويبدل أسس التعامل بين أفراد العائلة، هي لحظة ستتكرر مع الجميع، لكنها فارقة، ومنعطف خطير نحو تصرفات تخلو من التعاطف ومن التفهم والأهم، من الإنسانية.
ترفض آية وضع ملابس أمها في الغسالة مع ملابسها، ترجوها الوالدة بضعف أمومي، تحاول عبره الحصول على تعاطف آية مع مرضها ومع الظروف السيئة للخدمات العامة، تكرر الأم قائلة: أي وجبة غسيل تحتاج لأكثر من يوم في الغسالة لتنتهي بسبب انقطاع الكهرباء، ملابسي لا تكفي لتجميع وجبة وكذلك ملابسك، ترفض آية وهي تصرخ، أنت توسخين ثيابك، تملئينها بمرق الطعام وبعصائر الخضروات وأنت تطهين الطعام وبسوائل الجلي والتنظيف، أريد أن أحافظ على ملابسي زاهية ولامعة، تقترح عليها أمها أن تغسلها يدوياً، ترفض لأن ذلك يتطلب جهداً تبذله آية وقد يتسبب هذا الجهد بخراب طلاء الأظافر، كما أنه سيطيل المدة اللازمة لجفاف الملابس.
ماذا يفعل القانون هنا، في مجتمعات تتباهى بحسن معاملة الأمهات والخالات والعمات والشقيقات الكبيرات في السن، ماذا يفعل القانون هنا في بلاد مازالت تردد مقولة أن دور العجزة هي إهانة للعاطفة وخدش جارح في صلب العلاقة العائلية، وماذا يقول المجتمع حين يعتبر ان بقاء الكبيرة في السن في بيتها هو إهانة للعائلة، وبأن طبيعة الحماية العائلية الملتزمة توجب نزع الكبيرة في السن من دائرتها الخاصة وفرضها على وسط عائلي مكتظ ومرهق ويتعامل على أساس الواجب الصرف وليس على أسس الخصوصية والحق في الحرية الخاصة.
كاترين سيدة في الثمانين من عمرها، باعت بيتها وكل مقتنياتها ولجأت إلى أحد دور العجزة، كانت تخطط لذلك بصمت، حضرت كل شيء، وزعت ملابسها ومتاعها الشخصي غير القابل للبيع على الأصدقاء والصديقات، وزعت هدايا صغيرة تعني لها أشياء كثيرة لكن لا مكان لها الآن بين جدران مأوى العجزة، دفعت مسبقاً إيجار سنتين، فصرخ أقاربها مذهولين ومذهولات من جرأة وفداحة ما فعلته كما وصفوها، قالوا: هل ستعيش عامين آخرين؟ عاملها الجميع وكأنها سرقت أموالهم حين تصرفت بأموالها الخاصة، كانوا يحضرون أنفسهم لوراثتها فقط.
عاشت كاترين سنتيها وخمساً بعدها، تقرأ الروايات التي تحب، تزور صديقاتها وأصدقائها وتستقبلهم في بيتها الجديد، قاطعها غالبية أفراد العائلة، وصفها البعض منهم بالمجنونة والبعض الآخر بالبخيلة أو الحاقدة، ببساطة مطلقة قالت كاترين لطبيب دار العجزة بأن السنوات السبع الأخيرة هي أجمل سنين عمرها، انفقت ما كانت تظنه واجباً للادخار فقط بسبب الخوف من القطيعة، ومنحت كما كانت تريد لمن تعتقد أنه يستحق، لا لمن حدده القانون وارثاً شرعياً.
ما بين عنف مباشر وعنف مبطن، وما بين تصنيفات تقليدية وقناعات مطلقة، تتكرر مآسي النساء الكبيرات في السن وخاصة الوحيدات منهن، ومن كانت تعتبر أن العائلة حماية اكتشفت أن الحماية قيد وتسلط ومصادرة للملكية والخصوصية حين تتنافى مع إرادة النساء ومع حقوقهن المغيبة باسم الواجب والعيب وحصرية الحق بالإرث.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”