محمد قنطار
تراودني الكثير من التساؤلات حينما يثار النقاش حول حقوق المرأة ودورها وأسباب تهميشها على مستوى محلي -في سوريا- وبشكل عام على صعيد عالمي.
وتلك التساؤلات من قبيل:
هل كنا سنعرف شيئاً عن السيدة مريم العذراء، لو لم تكن أمّاً لعيسى المسيح؟ هل كان سيذكرها التاريخ كامرأةٍ عظيمةٍ بذاتها، دون أن تستمد عظمتها من رجلٍ عظيمٍ ارتبطت به بصلةٍ وثيقة؟ ألا تستمد مريم العذراء قدسيتها -فقط- من كونها أم النبي عيسى؟ والدليل على ذلك، أن غالبيةً كبيرةً حتى من المسيحيين أنفسهم، عدا عن أتباع باقي الديانات، لا يعرفون شيئاً عن مصيرها، ولا عن سيرتها الذاتية، ولا عن دورها في تلك الحقبة، سوى أنها أنجبت نبي الله عيسى، وعدم المعرفة تلك، نابع من عدم اكتراث بالأصل لكل تلك التفاصيل -التافهة- أو الثانوية جداً، فالشيء المهم الوحيد في سيرتها والمصدر الوحيد لقدسيتها، هي كونها أنجبت ذلك العظيم عيسى.
ينسحب ذات التساؤل عند الحديث عن النساء المقرّبات من النبي محمد، سواء كانت أمّه أو غيرها، فعلى الصعيد الشعبي، يعرف المسلمون الكثير عن سيرة نبيهم وأصله ونسبه، وأهمية ودور الرجال الذين وقفوا إلى جانبه، لكن الاهتمام يبدأ بالتضاؤل ليتلاشى تماماً، عندما يدور التساؤل حول أقرب المقرّبات منه.
ليصبح التساؤل أكثر عموميّةً: ألم يحن الوقت لنعرِّف المرأة بذاتها، دون الاضطرار لتعريفها بدلالة غيرها؟
نستطيع أن نسترسل كثيراً باستجرار شواهد توضح لنا التهميش الكامل حتى لوجود المرأة، وليس فقط لدورها، عبر التاريخ، على الرغم -وهنا تكمن المفارق- من صخابة دور المرأة وجوهرية حضورها، في كل مناحي الحياة، -على الأقل- كونها المصدر الوحيد لاستمرار حياتنا كبشر.
إذاً فنحن أمام ثقافة وتراث اجتماعي وديني “ذكوري”، تم نقله وتداوله عبر الأجيال من وجهة نظر ذكوريّة، وبلغة ذكوريّة أيضاً، لدرجة أننا حتى عندما نتحدث عن “الإله” بغض النظر وفقاً لأي ديانة، فإن المخيال الشعبي المباشر الذي يتوارد لأذهاننا على أنه “ذكر”، أو على الأقل، فهو بالتأكيد ليس أنثى، فكل ألقابه وصفاته وحتى الضمائر التي تشير إليه هي ضمائر مذكّرة.
أبعد من ذلك، وفي تساؤلٍ آخر أيضاً يطرحه النقاش حول الموضوع ذاته، ماذا لو كنا نرى العالم بعيون “نسوية”، كيف يمكن أن يصبح عليه شكل التاريخ والتديّن والتراث والعادات والتقاليد والثقافة بشكل عام، فيما لو كان هناك هيمنة “نسويّة” على مجمل الفضاء الثقافي، على عكس ما هو عليه الحال منذ بدايات تفتق الوعي الإنساني وحتى الآن؟
هل ستتغيّر تنبّؤاتنا وتصوّراتنا، المستقبلية في العلوم والسياسة والاجتماع والثقافة عموماً، عما هي عليه اليوم؟ بمعنى، هل كنا سننظر للعالم والمستقبل بعقليّةٍ مختلفة؟
إن استعادة -ولا أحبذ كلمة تفعيل- دور المرأة في مجتمع تهمش فيه النساء لأنهن “نساء” وليس لأي اعتبارات أخرى، هو مسألة حساسة وغاية بالتعقيد بالوقت ذاته، وهي جوهرية فيما يتعلق بنقل المجتمع كله ليكون قادراً على تفهّم واستيعاب مفاهيم الحداثة والتحرر والانفتاح بصفة عامة.
لكننا عندما نتحدث عن تهميش المجتمع للمرأة، فينبغي ألا يغيب عن ذهننا اننا لا نتحدث عن “مجتمع الذكور” فقط، وإنما نتحدث عن المجتمع كله، نتحدث عن “مجتمع ذكوري”، تشكل فيه النساء ما نسبته نصف أفراده. وبالتالي فإن المرأة تلعب دوراً أساسياً في منظومة اجتماعية تنظر لنوع اجتماعي “المرأة” نظرة دونية ومتخلفة بشكل عام.
فعلى سبيل المثال، أورد تقرير “Ditch the Label and Brandwatch” بعد أن تم تحليل 19 مليون تغريدة على تويتر، استغرقت أربع سنوات، أن هناك حوالي 5 ملايين حالة كراهية نساء، كان من بينها حوالي 52% من حالات الكراهية المسجلة تلك، تمت كتابتها من قبل نساء.
لذلك تبدو المطالبة بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل في شتى مجالات الحياة، وعلى الصعيد الإنساني بشكل عام، في بيئة وثقافة ذكورية، ضرب من ضروب الاعتراض والمواجهة مع قيم المجتمع كله، عاداته، تقاليده، تشريعاته الدينية والقانونية، ونمط علاقاته الاجتماعية، وتراثه “الذكوري” بشكل بديهي.
يبدو الأمر أكثر صعوبة عندما نتحدث عن مجتمع تعصف به صراعات دموية ومأساة إنسانية كبرى، تجعله مجتمعاً مفرطاً بالذكوريّة، فالحروب والصراعات الدموية المسلحة، كما أراها على هذا الصعيد، هي أعتى أشكال الذكورية وأكثرها تجلياً.
من جهة أخرى، فإن توعية النساء بحقوقهن، والضغط المستمر باتجاه تعديل القوانين والنصوص التي تهمّش المرأة، هو أولوية غاية بالأهمية، ولكنها -برأيي- ستكون تلك الجهود قاصرة جداً فيما لو لم تكن مدرجة في سياق نضالي أشمل، يمتد ليشمل الرجل كأولوية على هذا الصعيد أيضاً، باعتباره ليس فقط مصدراً لقمع المرأة والتسلط عليها وانتقاص انسانيتها، وإنما هو أيضاً -كما المرأة- ضحية تراث وثقافة ذكورية هائلة، أصبحت تشكّل بالنسبة له -كما بالنسبة للمرأة- جزءاً من هويته التي يعرّف العالم من خلالها.
انطلاقاً من هذا الفهم، فإننا كنسويّين، نحارب “ثقافة ذكورية”، تشكل أحد أسس السلوك “البديهي” لدى كل من المرأة والرجل على حد سواء، ولكنها ترتد سلباً على المرأة بشكل مباشر أكثر بكثير من ارتداداتها السلبية على الرجل، وبرؤية أشمل فإنها ترتد بكل السوء على المجتمع وقدرته على التطور بكل مكوناته الاجتماعية، وبالتالي فإن مهمة التوعية للرجال بحقوق المرأة، لا تقل أهمية مطلقاً عن توعية المرأة ذاتها بضرورة تمسكها بحقوقه.
وليتأتّى ذلك، فإن العمل على ترسيخ قيم الحرية والمساواة والمواطنة المتساوية -ليس فقط للنساء، وإنما للمجتمع ككل- هو مدخل غاية بالأهمية يجب أن تتمسك وتنادي به الحركات النسوية، لتحصل بذلك النساء على حقوقهن بشكل تلقائي على اعتبارهنّ جزء حيوي من هذا المجتمع، وليتجنّب الحراك النسوي من خلال ذلك، إمكانيّة تورّطه، -بشكل من الأشكال- في ترسيخ التمييز على أساس الجنس.
أن ترتكز استراتيجيّة الحراك النسوي على مفاهيم الحرية، والمساواة والمواطنة، يعني نقل هذا الحراك من كونه حراك “رفاهية” -في نظر كثيرين من السيدات والرجال على حد سواء- ، أو غير ذو أولوية على قائمة الأولويات السياسية والانسانية والاقتصادية المعاشة، إلى حراك جوهري ذو أهمية حيوية، لا يسعى لتحقيق أهداف خاصة، وإنما يستمد جوهره من تغيير ثقافة سائدة ومتجذّرة تستهدف عمق المجتمع وتسعى لتطويره.
فلا أمل لأي مجتمع بإحراز أي تقدم، في ظل غياب ذلك الدور “الطبيعي” للمرأة، و الذي ربما بات يشكّل ملاذاً أخيراً لمجتمعاتنا المحبطة، لإنتاج أجيال قادرة على التخلص من كل ذلك الإرث الذي يعيق حتى قدرتنا على التفكير بصورة تدفعنا نحو التقدّم والحداثة.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”