خولة سمعان
في الواقع ما كنت أدرك أنني أعيش مشكلة لولا المحيطين بي من عائلتي ومن زميلاتي في الوظيفة!
كيف يكون هذا؟ أن يدرك الآخرون ما أنت فيه، وأنتٍ ذاتك لا تعرفين؟ إنه أمر عجيب!
زميلاتي الأصغر مني في العمل يتجنبن الاحتكاك بي، أما هؤلاء السيدات اللاتي يكبرنني ببضع سنوات فلا يتوانين عن توصيل مشاعرهن في الإشفاق لحالي، أجل، الست راجحة نذرت أن توزع الحلويات على جميع من في المكتب إن أنا تزوجت قبل أن تُحال إلى التقاعد، أي في غضون عام.
عليّ أن أبحث لنفسي عن عريس كي لا أفوّت ( الحلوى) عليّ وعلى زملائي. ( تضحك بسخرية ومرارة) .
ولدى الأستاذة هبة – وهي تعتبرني منافستها في الوظيفة – طريقتان تتعامل بهما معي، فإن كانت متضايقة مني تغمز بعينها لتلك السيدة ذات الاثنين وعشرين عاماً وتقول بصوت عالِ: ( الله يحفظلك أولادك يا ست تمارا، والله الخلفة رضا من الله. الله لا يغضب على حدا. ) . وإن رضيت عني تقول لي مباشرة: ( روحي. الله يبعتلك ابن الحلال بأسرع ما يكون، عسى تلحقي وتنجبي ولداً يداري كبرتك. )
ليس الوضع أفضل حالاً في العائلة، فإن عمتي لا تزال كلما هاتفتنا تدعو بتضرع رهيب أن يرزقني الله ابنَ الحلال، ولعل سكوت أمي الواجم، كما لو أنها تبتلع غصة، يحزّ في نفسي أكثر من أي تعبير آخر.
عما قليل سأبلغ ثمانية وثلاثين عاماً ولم أتزوج لأنني بكل بساطة لم تروقني فكرة الزواج، وما أعجبني أحد الذين تقدموا لخطوبتي عندما كنت في حوالي العشرين من عمري، وإنني وقد نضجت شخصيتي أكثر من ذي قبل، أكره أن يتقدم لي هؤلاء الرجال المسنين ممن فقدوا زوجاتهم أو ممن رغبوا في ( التنويع) يتقدمون لخطوبتي وهم يمنّون علي بتفضلهم هذا.. عجباً والله!
فيما مضى كنت أحظى بصداقات طيبة، غير أن صديقاتي تزوجن، ومذ تزوجن – الواحدة تلو الأخرى – أخذن يتجنبن لقائي، لقد أثارت استغرابي هذه المسألة، ثم أدركت أنهن يخشين أن أخرب عليهن عيشتهن إن تصادف وعرفني زوج إحداهن، فأنا الآن في نظرهن ساحرة، قد أقوم بإغراء زوج أي صديقة وأوقعه في غرامي !!
تضحك عبير، تصمت قليلاً وتتابع: الحقيقة إن عزوفي عن الزواج ما كان يؤرقني لولا سمعتهن يتهامسن عني قائلات: ( هي عانس)
عانس؟ هل تعني هذه الكلمة أني مريضة مرضاً معدياً؟
***
إن جميع حالات التأخر في الزواج أو العزوف عنه التي رأيتها، تُحاط بمثل هذه النظرة التي يخالطها الشفقة والاستغلال والازدراء، وهذا بفعل الصورة المرعبة للعنوسة التي ساهمت مجتمعاتنا في رسمها، وجعلتها لصيقة بالمرأة، علماً أن مصطلح عانس يُطلق على المرأة والرجل ممن تخطّى سن الزواج المتعارف عليه في بلده ومجتمعه.
لقد تطورت أساليب الحياة تطوراً هائلاً في شتى مناحيها، ونَمَت الدول و المجتمعات في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبلغت ثورة الاتصالات في القرن الواحد والعشرين مبلغاً يطال معظم حياتنا اليومية، فأصبحت تكنولوجيا المعلومات عنصراً أساسياً في حياة الأفراد والشعوب، وما منحته من وسائل معرفة واتصال ووسائط تعبير، مما لا يترك مجالاً لأي مجتمع بالانغلاق والإبقاء على طرائقه ومفاهيمه القديمة، وبالتالي بات انفتاح المجتمعات أمراً لا مناص منه، بفضل تلك العوامل الخارجية التي ذكرناها ( تطور التكنولوجيا) وهذا ما حدث في مجتمعنا العربي حين امتلك أساليب الحياة الحديثة من غير أن يحدّث ذاته على صعيد القيم الانسانية والمبادئ والمفاهيم الاجتماعية بما يتماشى مع مقتضيات العصر، كما كان للثورة الاقتصادية دوراً أساسياً في قلب المجتمعات المحافظة، وقد كان من أثر ذلك أن معظم البلاد العربية لاتزال تُعاني تعثراً في الصناعة والتجارة والزراعة، أي هي تلهث للحاق بالفورة الاقتصادية المتقدمة، فازدادت نسبة البطالة وعمّ الفقر وكثرت احتياجات الناس وتنوعت، كذلك عملت الحروب – التي لا تفتأ تتلاحق في عالمنا العربي منذ مأساة فلسطين وإلى يومنا هذا – على تمزيق النسيج الاجتماعي وإفقار الشعوب وتمكين الجهل والتخلف، وإحلال العنف والانفعالات الهوجاء محل التنامي والتطور المدروس.
وكان من آثار ذلك أن تستفحل ظاهرة ما وتضمحل أخرى، ومن ذلك، مشكلة العنوسة التي استحالت من حالة فردية في الماضي إلى ظاهرة اجتماعية تشهدها معظم بلدان العالم، لكنها تتخذ صفة سلبية في مجتمعنا كما لو أنها تهمة غير بريئة تصاحب الفتاة دون الرجل، ولا يوجد مبرر واضح لذلك سوى أن العانس، رجلاً كان أو امرأة ، هو ذلك الانسان الذي بلغ سنّاً معينا ولم يتزوج لأي من السببين:
سبب اختياري: وهو ما كان من عزوفه عن الزواج باختياره ومشيئته.
سبب خارجي: وهو مجمل الظروف الاقتصادية والعائلية والأحكام الاجتماعية التي تشكّل عائقاً أمام الزواج.
بلغت نسبة العنوسة في سوريا والعراق 070/0 وفي مصر 080/0 وفي الجزائر 082/0 وفي لبنان 086/0 كما سجلت أرقاماً مرتفعة في دول الخليج العربي. (1).
تلعب الظروف الاقتصادية والاجتماعية دوراً أساسياً في العزوف عن الزواج، كارتفاع المهور ولا سيما في دول الخليج العربي، وندرة فرص العمل، وتدني الأجور وعدم تكافؤها مع تكاليف المعيشة وانتشار البطالة، وصعوبة الحصول على سكن مناسب، كما تساهم بعض العادات القبليّة والعشائرية بعرقلة الزواج، إذ لا تُيّسر الزواج بين ابناء بعض العوائل، وتمنع المصاهرة لدى بعضها الآخر.. ويرى بعض الباحثين أن لتعليم الإناث تعليماً عالياً ودخولهن سوق العمل في وقتنا الحاضر دور في تأخر سن الزواج وأحياناً في العزوف عنه.
من المعلوم أن للحروب مفرزات غير صحية في المجتمعات التي تدور فيها، من ذلك فقدان أعداد كبيرة من الرجال في الحرب، وهجرة عنصر الشباب وتشتت العائلات ونزوح رؤوس الأموال وقلة الموارد المالية وتثاقل الأعباء المعيشية على كاهل النساء، ما يجعلها تبحث عن سبيل للمعيشة الممكنة قبل أي شيء آخر.
كذلك ساهمت الحرب في طرح أنواع من الزواج غير المتكافئ في مجرى استغلال المرأة التي وقع الحمل بمعظمه على عاتقها.
تلعب المنابر الدينية دوراً بارزاً في تأزيم ظاهرة العزوف عن الزواج عبر توصيفها السلبي له، فتجعل الفتيات يقبلن بأي شكل من أشكال الزواج، حتى لو كان فيه غبن كبير، من أجل ألا يقعن في بئر العنوسة، عدا عن أن التشريع لم ينص على سن محدد للزواج فترك ذلك لتقديرات القاضي الشرعي، كذلك يصف بعض الدعاة ( العنوسة) بشيء من الازدراء وعدم الجدوى، من حيث أن الهدف الأساسي من الزواج تشكيل أسرة، فحثّ على الزواج المبكر لارتباطه بالانجاب..
لا ريب أن التكوين الفيسولوجي للانسان يتغير في مساحة زمنية معينة، فتصبح احتمالات القدرة على الانجاب لدى الفتاة أقل كلما تقدمت في العمر، وتتوقف في حوالي الأربعين من عمرها، وتتراجع خصوبة الرجل في حوالي ال45 من عمره. وهذا يعني أن تشكيل الأسرة أمر منوط بمجموعة عوامل منها ما تم ذكرها، وهو ما يقودنا إلى السؤال عن دور الحكومات في هذه احتواء هذه المسألة، إذ يتوقع أن تتخذ بعض التدابير اللازمة ولا سيما بعد حصول التطور اللافت في طرق الحياة ووسائطها، وبات الأمر وكأن مجتمعاتنا لم تتخطَّ البنية التقليدية للأسرة والتي تقوم على مبدأ التكافل والاعتماد المتبادل داخل الأسرة دون أي مساندة أو تدخل من الدولة، فنرى الأبوين وأحياناً الأخوة الكبار يقدمون الدعم والرعاية لأبنائهم الصغار على أن يقوم الأبناء فيما بعد باحتواء الوالدين اللذين أصبحا عاجزين، في غياب أي مؤسسة حكومية تتكفل بذلك، طبعاً تندرج الإناث غير المتزوجات في الجدول ذاته، أي في سياق الوالدين العاجزين اللذين يتحمل أولادهم الكبار عبء العناية بهم، ويبدو هذا المصير محتماً ولا سيما إذا ما تذكرنا أن الزواج في البلاد العربية يقوم على مبدأ الطلب والقبول، فيعطي للرجال مساحة واسعة من إمكانية تقديم طلب الزواج حتى في أعمار متقدمة جداً، وعلى الفتاة أن تنتظر هذه الفرصة ( العرض / الطلب) فإما أن يأتي أو لا يأتي، ولها أن تقبل أو ترفض حتى لو لم يكن مناسباً، ولا يمكنها أن تتقدم بطلب زواج كالرجل، فقط. لها أن تنتظر لفترة محدودة، وهذا ما تقرّه العادات والأعراف التي تحرّم قيام أي علاقة بين الرجل والمرأة خارج إطار الزوجية، ما يُحيلنا مرة أخرى إلى مفهوم الأدوار الاجتماعية / الجندر. الذي سيتحدد مصير كل من المرأة والرجل على ضوئه، فترانا نقارب المجتمعات الغربية إذ نأخذ بأدواتها ونعتمد على كشوفاتها ومنجزاتها الحديثة، لكننا نتقوقع أكثر فأكثر داخل سياجنا التقليدي الشائك.
لقد تجاهلت الحكومات – من ضمن ما تجاهلت – مشكلة الزواج، وهي مشكلة تمتّ بصلة أو بأخرى إلى مشكلة العجز والشيخوخة، وكان عليها اعتماد مشاريع اجتماعية مدنية لاحتواء هذه الظاهرة وإيجاد الحلول المتاحة، كتفعيل عمل المرأة وزيادة انخراطها في نشاط المجتمع المدني، وبناء المنازل لقطاعات المجتمع المختلفة، وضمان العجز والشيخوخة، ورصد مساعدات مالية لكبار السن والوحيدين، وانشاء مؤسسات رعاية صحية.. ما يضمن لأي انسان حياة أكثر انسانية وأقل عرضة للإذلال والتعاسة.
في الختام نؤكد أن الزواج أو عدم الزواج إنما مسألة تخص الشخص ذاته، ولا يمكنها أن تُضفي عليه – كإنسان – قيمة إضافية، كما لا يمكنها أن تسلبه شيئاً من قيمته، وندرك أن الألم الذي يصاحب كلمة ( عانس) إنما مصدره الضغوط الاجتماعية التي تلازم هذه المفردة، لذا لا بد من العمل على وتيرتين من أجل تسوية هذه الظاهرة:
- الوتيرة الاجتماعية: وذلك برفع مستوى الوعي الاجتماعي من خلال المدارس وسبل الاعلام.
- الوتيرة الرسمية: وتتجلى بقيام الدولة بواجباتها تجاه مواطنيها ورعايتهم وتقديم الخدمات الصحية والانسانية لهم.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”
- المصادر والمراجع
- العنوسة وخطرها على المجتمع. مصطفى محمد أمين. مجلة العلوم الاسلامية – المجلد السابع – العدد2/14. العراق.
- تقرير وكالة الأناضول – كابوس العنوسة. com. tr
- العنوسة وآثارها. تقرير الجزيرة نت
- أيهما أجمل: عانس أم مطلقة. أخبار صحيفة الرؤية.
_______________________