Search
Close this search box.

بيت العمر

بيت العمر

د. صباح ضميراوي

في الإنتظار يمضي قطار الزمن يقطع المسافات ويطوي العمر في طريقه، عندما نكون صغاراً، ننتظر أن نصبح كباراً، وعندما نكبر، ننتظر أن يكبر أطفالنا، وعندما يكبرون ننتظر أن يكبر الأحفاد.

وبين انتظار وآخر محطات عديدة، بعضها حلوة وأخرى مرّة بائسة، فالحياة لا تستقيم على وتيرة واحدة. كانت تراودها تلك الأفكار وهي جالسة ترقب غروب الشمس وراء الأفق ونسيمات تشرين الباردة تراقص أطراف شالها القطني الذي احتضنها برقة وحنان. فكرت في عمرها الذي انقضى في انتظار أفراح لن تأت، وأحلام كبيرة لم تتحقق، فانسابت من عينيها قطرات خجولة روت عطش ورود ذوت على خديها بفعل عناء سنواتها الستين.

كانت تنتظر شيئاً يكسر رتابة أيامها، يجدد الحياة حولها، تساءلت   في نفسها: “أمعجزة ما أترقب؟ أم قمقماً سحرياً يُخرج لي المارد ويُحضر العالم بين يدي؟ لكنها عندما تأملت أحفادها الذين  يلعبون بالحديقة العامة الجميلة وقد زغردت ضحكاتهم في الجو، وانتشر أريج لهوهم ليملأ المكان فرحا وسعادة، أيقنت أن انتظارها قد انتهى، وأن عليها أن تحيا أيامها بثوانيها ودقائقها وتفاصيلها إلى منتهاها، وأنها ستجعل رحلة القطار ممتعة، ملونة وسعيدة، وعندما يحين موعد المحطة الأخيرة ستنزل بهدوء وسكينة شاكرة حامدة.

   وبدأ شريط العمر يمر امامها ، وبدأت تعد وتحصي البيوت التي تنقلت بينها خلال مشوارها الطويل في قطار العمر، تذكرت البيت الأول، حيث عاشت وأمها وأخواتها البنات في كنف رجل حنون هو أبوها والذي كان فقدانه في مقتبل العمر الانكسار الأول في حياتها. صحيح ان والدتها كانت قوية وحنونة، إلا أن ذلك لم يعوض عن وجود الأب  السند في مجتمع يشكل الذكر عماده الأساسي. ومن وقتها  تضاعف عمل الوالدة على ماكينة الخياطة كي تربي وتعلم بناتها، فهي لم تكمل تعليمها بسبب زواجها المبكر.

بدأت الحياة تتغير، والتغيير الأكبر كان أن انتقلت من البيت الذي كان ملك أبيها إلى  بيت ثان بالأجرة، لأن القوانين حرمتهن هي واخواتها من جزء كبير من قيمة منزلهن لعدم وجود الذكر الذي يحجب كل الورثة بالعائلة، وكانت حصتها مع أمها وأخواتها لاتكفي حتى لشراء بيت صغير، فقررت الأم بحكمتها وتدبيرها المشهودين أن  تحافظ على المبلغ ولا تبعثره، فلجأت إلى بيت كرهينة مع اجرة بسيطة كي لا يتم صرف المبلغ. وتشاء الظروف أن يكبر الولد الأكبر لصاحب المنزل فطلب من الأم الأرملة أن تبحث عن بيت آخر، فانتقلن إلى البيت الثالث، والذي كان مع بداية المرحلة الإعدادية. وبالانتقال فقدت بنات جيران تحبهن ورفيقات مدرسة تعودت عليهن،  لكن تفوقها في مدرستها الجديدة جعلها تتجاوز هذه الأمور كون المعلمات ورفيقات الصف أحببنها وخففن عليها فراق المدرسة والرفيقات. لكن الحي الجديد والذي كان بمنطقة أرقى يحتاج للمظاهر من لباس وطعام وغيره مما أرهق الوالدة فقررت العودة إلى حي يناسب وضعهن الاقتصادي المتواضع. وهكذا انتقلن إلى البيت الرابع بحياتهن، حيث مكثن فيه إلى حين دخلت أختها الكبرى الجامعة، حيث العبء اصبح كبيراً على الأم التي كثيراً ماسمعتها تغني وهي تعمل على ماكينة الخياطة: “وابتدا المشوار وابتدا المشوار، وآه ياخوفي مايكمل المشوار”، بتصرف. وأضافت الام الى مهنة الخياطة التطريز التي كانت تساعد أمها فيها بعد ان خضعت لدورة في الاتحاد النسائي في الصيف. وهذا زاد من دخل عائلة النساء، وفعلاً استطاعت الأخت الكبرى أن تتخرج مهندسة قد الدنيا دون أن يحصل الخوف الذي كانت تغنيه أمها طيلة دراسة أختها الجامعية. وبدأت الأخت الكبرى بالعمل كمهندسة وتفوقت به، وساعدت الأم بمتابعة تعليم أخواتها. وكان نصيبها هي  أن تدرس في فرع تحبه وهو اللغة الأجنبية لتنطلق بعد تخرجها للتدريس والتعليم. ولأن الراتب كان قليلاً بدأت بإعطاء الدروس الخصوصية وكان همها الأول ان يكون لهن بيتاً يملكنه لا بيت اجره يتنقلن منه كل فترة. ولما سمعت بجمعية سكنية للمعلمين وسجلت بها للحصول على شقة سكنية، والذي لم تستلمه إلا بعد أن تزوجت وأصبح لديها ولدان، وبعد أن انتظرته عشر سنين. أما الأخت الكبرى فسافرت للعمل في دول الخليج ولم تجد الشريك المناسب، بينما وجدت بقية أخواتها كل منهن حياتها.

  ويمضي قطار العمر سريعاً، لكن  الظروف لم تدم طويلاً في بيتها حيث بدأت الحرب واضطرت الرحيل من بيتها، بيت العمر الذي دفعت دم قلبها للحصول  عليه، واستقرت مع زوجها وأولادها في خيمة نائية ببلد النزوح، وليأتيها خبر من بلدتها بأن بيتها قد اصابته قذيفة وتم تعفيش اغلب ما فيه، وبدات بالتنقل من مخيم لآخر، حتى استقرت في بلد اللجوء المجاور، وبعد طول عناء حصلت على عمل في التدريس هي وزوجها، والذي اكسبهما جنسية البلد الذي لجؤوا إليه، واستقرت في بيت تمنت أن يكون الأخير قبل الولوج إلى آخر مراحل العمر، بعد أن شارفت على الستين.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »