دمشق – سلوى زكزك
في أحد أحياء دمشق المزدحمة، أفلت سالم المصاب بالزهايمر يده من يد زوجته للحظة واختفى، ضاع سالم! الذي يبلغ عمره الثمانين عاماً، إنها ليست حكاية بوليسية، بل هي حادثة تتكرر، يعود غالبية التائهين والتائهات، لكن بعد أيام وبعد بحث مرهق وتوتر وحزن وترقب يفوق لوعة الموت بدرجات، والبعض لا يعود، يصير هاجساً مستمراً ومعذباً لأهله، هل مات؟ هل أكلته الوحوش؟ كما حدث في إحدى القرى مع سيدة تاهت في أحراش القرية.
تخفي لمياء حبات الدواء في جيب معطفها القديم، لأنها تخاف أن يرى ابنها الدواء، لان هذا يعني أنها تمتلك نقوداً لشرائه، ابنها عاطل عن العمل ويطالبها دوما بالنقود ويهينها بالشتائم وينعتها بالبخل وبانعدام العاطفة، مع أنها تؤمن الطعام له وثمن باكيت الدخان يومياً.
يتداخل الخاص بالعام في أحوال كبار وكبيرات السن في بلد وصلت أحوالها المعيشية واليومية حد انعدام الفرص للحصول على المال والدواء والضمان الصحي والمساعدات المادية والعينية.
نساء وحيدات دونما أبناء ودون موارد، لا راتب تقاعدي لأنهن لم يعملن يوماً في جهة تؤمن راتباً تقاعدياً، لا مصدر للدخل سوى المساعدات، الأقرباء مشغولون بتدبير أمورهم لدرجة يتعذر عليهم مساعدة أي فرد خارج إطار النطاق الضيق للعائلة، نساء متقدمات في العمر يجبرهن أبناؤهن على التسول كحال تلك السيدة التي تجلس على كرتونة رقيقة في نفس المكان في مدخل مدينة جرمانا، ونساء أكل الروماتيزم مفاصلهن التي استهلكنها في خدمة العائلة وتحضير الأطعمة المنزلية للراغبين والراغبات.
من نافذتي، أستمع لحوار سمته الوحيدة هي الصراخ والدموع، أم تترجى ابنها البالغ حوالي الثلاثين من العمر والمصاب بمتلازمة داون بالعودة إلى المنزل، وهو ممعن في رفضه، يقول لها باكيا: أخي يضربني، وأنت لا تطبخين طعاماً لنأكل، تبكي الأم وتقول: (والله ما معي مصاري، وما بقدر على اخوك بتعرفو عصبي كتير).
اضطرت أم ياسر لإجراء عملية لتغيير مفصل الورك بعد وقوعها بسبب ضعف بصرها ولإصابتها بهشاشة العظام، كلفة العملية تتجاوز الملايين الثلاثة، باتت العائلة أمام خيارات أحلاها مر، البنات مهاجرات وزوجات الأبناء موظفات، أي لا إمكانية أبداً للرعاية المنزلية، والملايين غير قابلة للتأمين. لا عملية جراحية إذن، ولا إمكانية لنقلها إلى دار رعاية مسنين أو مشفى خيري، ستترك أم ياسر مقعدة في سريرها حتى تتوفر صدفة عجائبية تؤمن لها تكاليف العملية أو أن يأخذ الله أمانته كما دأبت أم ياسر على الدعاء كي ترتاح وتريح.
وجدوا سالم في اليوم التالي لضياعه، نام في الطريق، حتى وجده صباحاً صاحب أحد المحال التجارية واتصل ليعلم عن وجوده لديه، استنزف غيابه طاقة أفراد العائلة الجسدية والنفسية وخاصة زوجته الوحيدة الباقية له بعد سفر الأبناء والبنات. كان مذعوراً ونحيلاً جداً، لم يوافق على الركوب بسيارة العودة الى المنزل إلا بعد قدوم زوجته، أمسك يدها وصعدا معا في رحلة العودة إلى أمان رغم وجوده لكنه مهدد ولو عبر لحظة إفلات واحدة.
باتت دور إيواء المسنين حاجة متعاظمة، لا يشكل غياب الأبناء أو افراد العائلة الحلقة المفقودة الوحيدة، بل صعوبة تأمين عناية منزلية عبر مختصات أو مختصين، وإن حالف الحظ أفراد عائلة المسن بتوفر رعاية منزلية مستمرة ومأمونة، لكنها ستكون رعاية ناقصة، لأنها تفتقد للحاجات الماسة للمسنين والمسنات مثل العاطفة والنشاطات المشتركة والحاجة إلى التواصل الجسدي النفسي والحركي والعاطفي، إضافة إلى الرعاية الصحية والنفسية اللازمة.
أما عن العنف الاقتصادي فقد تم إدراجه كأحد أشكال العنف الذي يعاني منه كبار وكبيرات السن، والوحيدين والوحيدات، وهنا قد تكون أعمارهم في حدود الستين، أي ما قبل سن الشيخوخة، لكن الحاجة وخاصة للمرضى منهم /ن ملحة لضمان الحياة الكريمة والشيخوخة المحترمة والإنسانية. إن انعدام الأمن الاقتصادي وخاصة الغذائي والدوائي لهذه الفئات هو الأكثر تسبباً في غياب الأمان الصحي والنفسي والاجتماعي والحفاظ على الحق في الحياة الكريمة واللائقة مع الحفاظ على الخصوصية الشخصية لأنها حاجة ماسة لهم، وتجدر الإشارة إلى أن بعض العائلات ونظراً لعدم تملكهم لبيت خاص بهم ولغياب عناية خاصة ودورية وكريمة لكبار السن يلجؤون للسكن في بيوت العائلة بذريعة رعايتهم، أي أنهم يقتحمون خصوصية الكبير في السن ويحرمونه من مساحته الشخصية حين يفرضون عليه أن تكون حتى غرفة نومه مشتركة مع أطفال العائلة.
للنزوح واللجوء وجه آخر، وجه أكثر حدة وألماً، حين يضاعف الشعور بالغربة من تبعات التقدم بالسن، وحين يفرض على الكبار والكبيرات تفاصيل يومية للحياة غريبة عنهم/ن ومؤذية للأمان النفسي ومعيقة للأمان الصحي ومقيدة لك إمكانات التفاعل والتواصل الاجتماعي السليم.
فيما عدا النفقات الباهظة والتي تعجز الغالبية عنها لرعاية كبار السن بصورة شخصية في منازلهم أو في دور إيواء ورعاية قليلة العدد بل نادرة، يتحول هاجس ضرورة وجود مراكز رعاية مجتمعية مجانية وخطط اقتصادية حكومية ومجتمعية عبر المجتمع الأهلي أو دور العبادة، وخاصة مساحاتها وأوقافها الواسعة، ضرورة لم يعد من الممكن إنكارها أو تجاهلها، عدا عن غياب أية مواد قانونية تلزم الأبناء وبالتكافل فيما بينهم برعاية أهلهم وبدعم حكومي لمن لا يملك المقدرة على الدعم العائلي، رعاية تكاد أن تكون مستحيلة في واقع اقتصادي مدقع في فقره وممعن في عجزه، واقع لم ينتبه يوما لحقوق كبار السن كخدمات وكرعاية وكموارد وكاستثمار مجتمعي واقتصادي فاعل وفعال.
خااص بـ”شبكة المرأة السورية”