جورج ميخائيل
في ظروف الحروب والثورات تتعرض البشريّة لخسارات هائلة حيث يمكن القول إنها تفرض آثارها السلبية والمدمّرة على النساء بشكل أكبر، لأن تلك الحروب والثورات تأكل ابناءها الرجال والشباب بنسب أكبر بالمعارك أو المعتقلات أو المنافي، لكن استمرارية الحياة تفرض على النساء الإستعداد والنهوض لتبوّء مكانة جديدة في الحياة والعمل وتضميد جراح النزاعات وهذا ما نلحظه في بلادنا التي تنطلق فيها النساء من جديد بأثقال وأحمال جديدة ومختلفة لتتجاوز العادات والتقاليد والنظم الوظيفية والحياتية التقليدية مبشرة بمستقبل واعد.
كما تتأسس المفاهيم والمقولات الجديدة لتعبّر عن وقائع مغايرة، كذلك تتأسس الحركات والمبادرات لتعبّر عن احتياجات إنسانية، فالنساء في خروجهن من فضاء المجتمعات والتنظيمات الذكورية لتشكيل عالمهن الخاص والنوعي في أهدافه واحتياجاته، انما يعبّرن عن احتياجات إنسانية شاملة رغم كونها وفي مرحلةٍ أولية مبكرة تتبلور في حركات خاصة لتصل إلى مفهوم النسويّة.
في القرن الأخير تعكس حركة النساء تنوعات وصفات جديدة تُظهر مدى استجابة النساء للعالم الحديث ومكوناته وقوانينه، فنجد النساء في حركة واستجابة ومرونة غير مسبوقة تكادُ تشكّل العالم والمجتمع من جديد. فالمرأة التي خرجت للتوّ من القرية مع زوجها ورغم الفارق في السن أو الوظيفة نجدها في المدينة قد انتقلت من وضعية المرأة القروية إلى المرأة المدينية بسرعةٍمتجاوزة حالة الزوج/الرجل رغم كل ذكورية المدينة الطاغية، والعكس صحيح عند الانتقال من وضعية المرأة المدينية إلى المرأة القروية، وهنالك نماذج لا يمكن حصرها في منطقة أو قرية أو مجتمع منفتح أو منغلق فنراها منتشرة في كلّ مكان حولنا.
فهاهي إنصاف الطبيبة والأم لطفلين عندما اجبرت بسبب الظروف إلى الانتقال من قريتها إلى المدينة غدت بزمن بسيط طبيبة الحي وتعرفت على نظيراتها من النساء وانخرطت بنشاطات نسائية ومارست الرياضة وكأنه لا مكان للحزن أو الجمود في حياتها الجديدة، بينما زوجها الذي يعتبر من نفس الجيل وهو طبيبٌ أيضاً بقي في حالة ما يشبه الانكفاء عن الانخراط في العالم المديني الجديد مكتفياً بدوام عيادته وبعض النزهات مع كثير من القلق وعدم الإستقرار الاجتماعي والنفسي، وهذا القلق لا نجده عند إنصاف.
أما رباب وهي في بداية الأربعينات من العمر فقد استطاعت بخبرة دراستها للعلوم الاجتماعية ودوراتها للدعم النفسي التواجد والمتابعة المنتظمة في برامج دعم نفسي ونشاط تربوي ورياضة في قريتها الجديدة بعد انتقالها من المدينة بسسبب ظروف الحرب بينما زوجها اكتفى بعمله اليدوي رغم شهاداته العلمية العليا دون الاقتراب أو التفاعل مع المجتمع المحلّي الجديد متناسياً خبرته السياسية وتعاطيه الشأن العام سابقاً.
واستطاعت جانيت خمسينية لديها ثلاثة أولاد- بعد تقاعدها من عملها الوظيفي الى فتح مشغلها الخاص للخياطة، وإقامة علاقات اجتماعية جديدة بعد انتقالها من المدينة إلى القرية بينما اكتفى زوجها بالتقاعد الفعلي، والتأفف الدائم، ما انعكس على صحته فغدت ممرضةً له إضافة لأعمالها الجديدة.
وسعت نبيهة وهي في منتصف العقد الخامس وأم لشابين جامعيين بعد انتقالها إلى حياتها الجديدة و رغم حاجة الأسرة ككيان ثنائي الزوج/الزوجة، للتشارك في تأمين مورد للعيش، لكنها وبمفردها افتتحت محل عطورات بينما اكتفى زوجها رغم خبرته وعمله السياسي سابقاً بالتقاعد والعمل والانشغال بأعمال غير مجزية مادياً ولا اجتماعياً.
إن نماذج النساء أعلاه إن دلّت على شيئ فإنها تدلّ على مرونة حياتية اجتماعية عند النساء ملحوظة تساعد على الاستجابة إلى الظروف الجديدة، وقدرة على التأقلم السريع مع عالم يطرق بابها لأول مرة، بعكس الرجال وخاصة أزواج هاتي النساء، رغم التزامهم الطويل بالمشاركة بالحياة السياسية ويمكن اعتبارهم سابقاً بأنهم من وجوه العمل السياسي والمجتمعي، لكن حالة انكفاءهم وتقاعدهم حتى عن الحضور الاجتماعي اليومي تحولت إلى قضية تفترض التساؤل.
فالمرأة في أمثلتنا السابقة، وهي عينة كبيرة من نساء سورية، أضحت بسرعة جزءا من نسيج العالم الجديد، بلغتها التفاعلية وعملها وعلاقاتها ومرونتها.
وهذا يعكس تقدم النساء نحو مواقع جديدة في العمل والنشاط بينما انزوى الرجل فيما يشبه الاستقالة الحياتية عن المجتمع والعمل والسياسة تاركاً شريكته المرأة لوحدها تحاول النهوض بما تبقى من الأسرة دون أي دعم منه/ بحركة ساكنة/ فهي ليست سلبية بمعنى انه منعها! لكنها ليست ايجابية فلم يسع لدعمها من خبراته التي اكتسبها سابقاً عندما كان يعمل في عمله الخاص وعندما كان منخرطاً في الأحزاب السياسية، مع أنّه مدعو الآن بفضل خبرته وانجازاته السابقة في السياسة والعمل المجتمعي (على عللها أو نجاحاتها) إلى التروي والبحث في مآلات استقالاته اليوم والتقدم نحو مشاركة المرأة ونقل خبرته إليها والشعور بالامتنان للّحظة التي يحضران فيها معاً، وعليه أن يشارك ما يملكه معها من تحقيق الانجازات والأهداف البشرية التي شكل عجزه في تحقيقها سابقاً اقتصادياً وسياسياً. حيث يمكن نقل خطوات النساء الجديدة بالعمل وعلاقاتهن مع الوسط الجديد إلى أشكال أرقى من التعاون وتأسيس المشاريع وتحقيق تنمية مستدامة فكرياً وانتاجياً واقامة شبكات علاقات وبنى أو مشاريع أو هيئات أو تجمعات تتجاوز فكرة العمل إلى فكرة التأسيس والتنظير لعملية مجتمعية جديدة يكون فيها الرجل والمرأة في حركة نسائية وانسانية واحدة من أجل حقوق الانسان والتنمية المستدامة والعدالة والمساواة واقامة شبكات للدفاع عن حقوق النساء ومساواتهن وتغيير القوانين بما يتناسب مع قوانين العصر والمجتمعات الحديثة واقامة سلسلة من الروابط بين الشبكات لتأصيل حركة مجتمعية تجمع النساء والرجال بتحقيق انتقال سلس نحو المستقبل المنشود ونحو العدالة الواجبة من دون المرور في مراحل العنف والعنف المضاد واعادة التجارب السابقة وقصور قوانين التطور ليكون البديل تطوراً طبيعياً متّسقاً مع قوانين التاريخ التي تتحقق ضمن شروط وعي الإنسانية وأهليتها الناضجة.
اللوحة للفنانة “شلبية إبراهيم”
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”