Search
Close this search box.

 من الجوع إلى مزيد من العنف

 من الجوع إلى مزيد من العنف

لجين العرنجي

يعاني السوريون في الداخل من عوز اقتصادي لم يشهدوه طوال فترة الحرب، فعلى مدى تسعة من السنوات، تدهورت الليرة السورية بالتدريج لتنتقل أمام 1 دولار أميركي من 50 إلى 500 ولتستقر في نهاية 2019 وبداية 2020 على 1000 ل.س مقابل 1 دولار، قابلها زيادة طفيفة في الرواتب على مراحل، وارتفاع ملحوظ للأسعار بالتدريج. أما في آذار ونيسان وأيار 2020 فقد ساء حال الليرة ليقابل الدولار الواحد 3000 ل.س مع ارتفاع في أسعار أغلب المنتجات خمسة أضعاف على الأقل! وخاصة الأدوية والمواد الغذائية ومواد التنظيف، مع ارتفاع مهول لأسعار الذهب، ليتباطأ ارتفاع الاسعار في الفترة الحالية بخجل برغم زعم استقرار سعر الدولار ليتراوح بين 2000- 2300ل.س.

وبخصوص الدخل المعيشي في سورية، لم يطرأ أي تغيير يذكر على رواتب الموظفين الحكوميين، حيث يتراوح راتب الموظف من 15-30 دولار أميركي، وقلة قليلة من الشعب السوري في الداخل استطاعت التأقلم أو التعايش مع هذا الغلاء الفاحش.

أثرت هذه الأزمة الاقتصادية على جميع أفراد العائلة السورية دون استثناء، من الأطفال المحتاجين للحليب والغذاء والحفاضات، إلى المسنين المحتاجين للأدوية والغذاء الصحي. وفي محاولة من “شبكة المرأة السورية” لمعرفة جزء من هذه التأثيرات عبر استطلاع بعض الآراء، استوقفتها بالتأكيد الآراء المتعلقة بمعاناة المرأة، والعنف الذي يقع على المرأة نتيجة هذا الجوع الذي واجه الانسان السوري بشكل عام.

أخبرتنا سماهر، 34 عاماً، ربه منزل: ” تزوجت في سن ال 25، ويعمل زوجي مساعداً في مغسل سيارات، لم يستقر وضعنا المعيشي يوماً منذ زواجنا حتى الآن، فنكتفي مادياً لعدة شهور وتضيق أحوالنا في شهور أخرى ولكن الحال كان مستوراً، ولم يضربني زوجي طيلة ثماني سنوات إلا مرة واحدة في السنة الثانية للزواج بسبب سوء تفاهم كبير مع عائلته، وانتهى هذا الضرب بانفصالنا لمدة 5 شهور ثم عودتنا بتعهد منه ألا يضربني مجدداً. منذ بداية هذا العام 2020 وحالنا الاقتصادي يزداد سوءاً، فخففنا من مونه البيت، وتوقفنا عن الكماليات نادرة الحدوث (كالمنتزهات، الألعاب، الوجبات الجاهزة)، وباتت وجبات الطعام عبئاً ثقيلاً علينا، وأصبح العنف ضيفاً مقيماً في منزلنا، ففي يوم من الايام وبعد طلب من الأولاد، قلت لزوجي وهو يتناول فطوره قبيل ذهابه للمغسل: “هذه الثلاجة خالية من الفواكه”، فانهار علي بالضرب دون أية رحمه وهو يردد: “الناس تموت من الجوع، نحن نموت من الجوع يا كلبة”. ومنذ 6 شهور حتى الآن انقلبت حياتنا جحيماً، فانا لا أعرف كيف أتصرف معه، فأحياناً يضربني لصمتي وأحياناً يضربني لكلامي، ويردد مفردة الجوع في يومياته كثيراً، أنا لا أعرف على من أحزن، على نفسي التي تتحمل كل هذا الضرب! أم على زوجي الذي لا يستطيع تأمين معيشتنا ويتحول لمجرم رويداً رويداً! أم على أطفالي الذين يشاهدون هذا العنف ويستغربون ويكبتون كل هذا الألم”.

أما هدى، 40 عاماً، تعمل في معمل فتقول: “عندما نزحنا من الغوطة الشرقية كان عمر أطفالي دون الثامنة، تعذبت لعدة سنوات حتى استطعت خلق نظام للتعامل فيما بيننا في ظل غياب والدهم الذي بقي في الغوطة ولا أعرف شيئاً عنه حتى الآن، إذ أنني قبل النزوح كنت منفذة لطلبات زوجي والأولاد دون أي سلطة وكانوا يظنون أن هذا هو دور الأم الطبيعي! حتى تغيرت الأوضاع بغيابه واكتسبت سلطة جديدة بعد النزوح، وبني النظام الجديد فيما بيننا على أن يقوموا بواجباتهم الدراسية والاهتمام بهواياتهم وأنفسهم وأن أقوم بتأمين متطلباتهم لعيش حياة كريمة كما أبناء المنطقة التي نزحنا إليها، ولم أُشعرهم يوماً بأي عجز أمام متطلباتهم إلى هذا العام، فراتبي حالياً لا يكفي لمعيشة 10 أيام، وبدأت أفقد مصداقيتي أمامهم وخرجت ابنتي الأصغر عن سيطرتي، وساءت علاقتي بها جداً، وبعد شهور من العناء والقساوة من الأولاد تجاه سوء وضعنا الاقتصادي، استطاع ابني الأكبر 18 عام من فهم سوء الوضع الاقتصادي على جميع الناس ويحاول جاهداً تخفيف العلاقة المتوترة الجديدة في العائلة”.

وتقول فاطمة، 41 سنة، ربة منزل: “ليس أصعب من ضربك إلا ضرب بناتك اللواتي تحاول تربيتهن للعيش بكرامة، لم يكن زوجي بيوم من الأيام لطيفاً أو ودوداً بشكل ملحوظ، لكنني أعلم كم يحب بناته، إلا أنه قاس في التعامل معهن. ترعرعت يارا وسارة في الحي مع مجموعة من الصديقات ميسورات الحال، اللواتي تنظمن في نهاية كل أسبوع أو في كل مناسبة احتفالاً بسيطاً أو نزهة ما، ولم يمانع زوجي هذه النشاطات لأنه يعرف أهالي هؤلاء الفتيات ويثق بهم، إلا أن الوضع الاقتصادي التعيس حالياً لا يسمح لنا بأن نخصص مصروفاً لبناتنا للخروج في نزهات أو إهداء صديقاتهن هدايا باهظة الثمن إذ ما من منتجات رخيصة في السوق. بدأت القصة بمنع زوجي للفتيات من الخروج، وكنت أقدم لهن الأعذار، أنه ما من مال كاف لأي نشاط إضافي في هذه الفترة، فصرن يلححن أنهن يستطعن الخروج دون أموال، فسمح لهن في الخروج لمرة أو مرتين ومن ثم عاد للمنع، حتى انهال عليهن بالضرب عندما طالبن بالخروج قائلاً: “كنتما تصرفان الآلاف منذ سنين في نشاطاتكن، فمن أين تدبران هذه الأموال إن كنتما لا تأخذانها مني؟ إما أنكن كاذبات وإما أنكن دنيئات”. وعندما حاولت الدفاع عنهن ضربني بدوره، تغيرت العلاقة هذا العام بين زوجي وبناته كثيراً، الكثير من التوتر والجفاء، لا أعرف ما يمكنني فعله لتعود العلاقة كما كانت، ولتنسى الفتيات ما تعرضن له من تعنيف لفظي وجسدي”.

أما شفاء، 20 عاماً، طالبة سنة ثانية طب أسنان: “أمي وأبي مدرسان، عشنا حياتنا كأسرة من بيئة متوسطة، وفي الحرب أقل من متوسطة، لكننا في البيت متفقون إلى حد كبير ومتفهمون لكل ما يحدث في سورية. لطالما كان حلمي دراسة الطب، إلا أن علاماتي لم تؤهلني لدراسة الطب البشري، فدرست طب الأسنان، ولطالما حلمت بسنوات الجامعة المشرقة وبدلة الطب البيضاء والأناقة والمكياج بعد سنوات الدراسة الجدية، إلا أن كل ذلك كان مختلفاً على أرض الواقع، فأول امتحان جامعي شهدته كان قريباً من رأس سنة 2020 وكان فظيعاً جداً، لم أتوقع في يوم من الأيام أن أرى عائلتي تعيسة كما في هذا العام، واستمرت التعاسة إلى الشهر الرابع، ولم تعد تطاق بعده، فمن الممكن أن تكون الثلاجة فارغة تماما من الطعام لأيام معدودة، وجميع النقاشات في منزلنا كانت حول كيفية تأمين المؤونة والطعام، فقررت أن أعمل وبدأت بالبحث عن عمل مسائي، أتعبت هذه الفكرة عائلتي بشكل اضافي إلا أنني أقنعتهم بعد عدة محاولات، عملت في البداية في محل للألبسة المستعملة “الباله” وبعد أسبوع، بدأ صاحب المحل بالتحرش بي وتركت العمل بعد أن حشرني في الزاوية وقبلني على عنقي، من ثم عملت كمتطوعة جمع بيانات ونشاطات للأطفال في جمعية مدنية، حيث كانت معاملة المسؤولين للمتطوعين فيها سيئة للغاية، محاولين ممارسة السلطة مقابل معلومات خاطئة وتعامل لا انساني ضمن اطار انساني كاذب، فخرجت من العمل وأنا أنتقد أحدهم بأنه يمارس العنف مع الأطفال وبأنني سوف أفضح عمل الجمعية اللانساني. والآن أنا أعمل في محل لبيع الحلويات بدوام مسائي، أحاول أن أقنع نفسي أن وضعنا جيد جداً بالنسبة للكثيرين والكثيرات في سورية، وبأن الحال سيتحسن”.

لم يكن حال السوريين خارج بلدهم وداخلها بالحال الجيد على كافة الأصعدة منذ اندلعت الحرب حتى الآن، وفي كل مرحلة جديدة يزداد المشهد سوءاً، ويبدو أن وضع السوريين في الداخل حرج اقتصادياً لدرجة فاقت التوقع، فنحن في مرحلة انتقال العنف بالتعدي، فبعد أن عنفت السلطة الشعب بكافة الأساليب، يتطور العنف ليصبح مضاعفاً من السلطة على الناس ومن الناس على بعضهم بعضاً تبعاً لسلطاتهم الاجتماعية والعائلية، ولا يمكن استثناء تعرض الرجال لهذا العنف بالطبع، إلا أن نصيب النساء والأطفال من العنف وفير دائماً للأسف.

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »