Search
Close this search box.

شوارع قابلة للموت… والولادة

شوارع قابلة للموت… والولادة

منتهى شريف

أقبلت علينا راجية أن نشتري منها ورقة يانصيب، عمرها لم يتجاوز العشر سنوات بعد، لكن وجهها يحمل هماً يجعلها تبدو أكبر سناً، تنظر للمارة وكأنها تبحث بين الوجوه عن أحدٍ ما، و كلما حركت  يدها اليسرى  تنزلق ساعة معدنية   كبيرة من معصمها الى كوع ذراعها، فتشي بطول الحكاية.

نغمة صوتها الواثقة، جعلتني أتوقف لأسألها الأسئلة الروتينية المعتادة حول أهلها وحول المدرسة، ففجاءني جوابها المختصر: “ضيعتهم بالحرب”.

قالت ذلك ببرود أدهشني، وكدت أشك بصحة كلامها لولا تأكيد دموع أختها الصغيرة التي تسير بمحاذاتها متمسكة  بذيل فستانها الطويل.

 تذكرت تعلقي بأختي الكبرى التي أجبرتها الحرب على الرحيل، كنت في صغري دائماً أتكمش بكم سترتها أو بطرف فستانها خوفا ًمن أن أتيه  في أي ازدحام.

 قبل أن  تبتعد الفتاتان عن ناظري، عاد ذلك السؤال الذي حيرني لسنوات: “ماذا عن الجمعيات الخيرية والمنظمات الانسانية وغيرها من المؤسسات التقليدية والتي تنضوي جميعها تحت عنوان وهدف واحد وهو مساعدة المحتاجين والمتضررين؟ ولماذا كلما ازداد عدد تلك الجمعيات والمنظمات يزداد عدد المحتاجين؟”

كان هذا السؤال عالقاً على لساني، وأنا أبحث عن سارة وأختها في الشارع، لكن الفتاتان اختفتا تماماً عن ناظري في ازدحام السوق.

تذكرت كلمات أختي، عندما مررنا بازدحام  مماثل قبل سنوات، يومها أخبرتني  أن الجوع يغير الناس ويجعلهم  يطلبون  المزيد من الطعام خوفاً من فقدانه، وأن الحاجة تجعلنا نعود لمشاعر القطيع، فتصبح الحياة مرتبطة بالقوت اليومي ويصبح الهدف الوحيد مجرد الاستمرار والقدرة على البقاء.

على الرغم من الخوف الذي يلف العالم كله من وباء كورونا وعلى الرغم من الرعب الذي يحاصر الجميع دون استثناء والعزل وأوامر الحظر ومنع التجوال، لم يستطع أي شيء أن  يثن هؤلاء الناس عن الذهاب للسوق والخوض في معركة الازدحام اليومية .

العشرات يقفون أمام معتمد الخبز والمئات أمام مؤسسة التموين التي تعتمد بتوزيع المواد الأساسية، التي تتقلص يوماً بعد يوم، على بطاقة خبيثة تجبر الناس على الوقوف متلاصقين لساعات.

“الناس عم تنتحر!”، أقول لنفسي كلما مررت من هنا ورأيتهم أمام النافذة الوحيدة ينتظرون دورهم، وكلما رأيتهم يسيرون تائهين في الشوارع أو يقطعون الطريق دون أي انتباه للسيارات المجنونة.

 كانو يتحدثون اليوم بسخرية عن ذلك الفيروس، قلائل منهم من يضعون الكمامات، لكن كلمات اختي عادت لترن في أذني: “لا تخافي عليهم،  كلما كثر الموت، بتصير الحياة أثمن، وبيصير الانسان يفتش عن فرصة جديدة للنجاة  …”

هاهي سارة تعود للشارع، تحمل بيدها سندويشتين كبيرتي الحجم، لتجلس مع أختها على حافة الرصيف وتبدآن  بالأكل، سندويشتان قدمتها لهما امرأه ستينية مع زجاجتي عصير.

ملامح المرأة وثيابها الرثة، تؤكد أن حالتها ليست أفضل من حالتهما، لكنها لازالت توزع المزيد على باعة البسطات، وعلى الأطفال المشردين، اكتشفت بعد دقائق أنها ليست وحدها من تقدم الطعام للناس في الشوارع فهي متطوعة في فريق جديد، غالبية أعضائه من النساء اللواتي تجمعن وقررن ألا يستسلمن في هذا الظرف الصعب. صبية عشرينية راحت توزع الكمامات والمعقمات على الناس المتجمعين أمام المؤسسة وتطالبهم بتنظيم صفوفهم، مؤكدة على ضرورة ترك مسافة أمان بينهم، كلماتها التي أطلقتها بصوت واطئ كررها زميل لها بصوت عالٍ فسمعه الجميع.  

كانت هذه الفرق المجتمعية قد بدأت تتشكل على نحو عفوي وتلقائي وسريع في الآونة الأخيرة، دون تدخل من المؤسسات أو الجمعيات التقليدية ودون طلب إذن من أحد، هم يساعدون بتوزيع مؤونة ومواد تنظيفية ومعقمات يحتاجها الناس الآن أثناء انتشار الوباء.

عادت كلمات أختي: “في الأزمات الكبرى قد يصير الشارع مسرحاً للموت وكمان للولادة …”

الآن بدأت أفهم قصدها، فالشارع بات منبراً مفتوحاً للمتطوعين من الشباب والصبايا والأمهات وكبار السن حتى.

كل يوم يعلمني الشارع دروساً؛ البطولة ليست فقط بالقتال وبالنضال، البطولة اليوم أن تحمل زجاجة ماء لتروي عطشاناً وأنت تعرف أنك ستحتاجها غداً لتروي عطش أطفالك، أن تعطي بعض الخضار المزروعة في حديقة بيتك الصغيرة لجارك، أن تقدم طبق طعام أو سندويشة لطفلتين جائعتين أضاعت الحرب والديهما، أن ترفع صوتك بحب للناس وتقول لهم:” ديروا بالكم على حالكم … حياتكم ثمينة!”، أن تقول لنفسك كل يوم: “كل هذا يعنيني وأكثر”، أن لا تستسلم لليأس، وأن لا تتوه، هذه هي البطولة اليوم.

لعل معظم هؤلاء المتطوعين خرجوا ليساعدوا بالعمل فقط، فالمساعدات تم شراؤها من أموال أبناءنا وبناتنا المغتربين. “لولا مساعدة أبنائنا في الخارج لما استطعنا توزيع شيء!” ، قالت المرأة الستينية ذلك موضحة بأنها فقط تقدم مساعدة في التوزيع وتعتبرها “أقل الواجب” وفق تعبيرها، وتضيف: “لولاهم لمت أنا وغيري جوعاً منذ سنوات”. ثم تقترب من سارة لتعطيها حصتها من المؤونة والمنظفات وتزودها بالنصيحة: “لازم تلتزموا بالبيت!”، واعدة إياها بأنهن سيحاولن تأمين كل ما ستحتاجه واخوتها خلال هذه المرحلة الصعبة.

لكن ما أن خطت المرأة بضع خطوات مبتعدة حتى ركضت سارة ورائها وتمسكت بطرف فستانها: “بتقدروا تساعدوني عن جد؟” سألتها سارة، “ممكن تدوروا لي على أبي؟ … هذه ساعته”، تشير للساعة عند كوع يدها، “كان يضعها دوماً ويشير لنا وهو خارج من البيت: ” لن اتأخر … ساعة وأعود، وجدناها قرب بيت جيراننا المدمّر قبل ثلاث سنوات”.

اقتربت المرأة وضمت سارة ناسية نصيحة التباعد الاجتماعي: ” ياريت ياسارة منقدر نرجع كل الي غابوا…” كثيرون وكثيرات تشاركن مع سارة والمرأة المتطوعة البكاء مكتشفين على نحو جمعي حاجتهم لتبادل مشاعر التعاطف فيما بينهم.

أنا أيضاً مضيت لأشارك المرأة في ضمّ سارة، لعله شوقي لأختي ما جعلني أقترب، وربما لأننا جميعاً نحتاج طرف فستان لنتمسك به حتى لا نتوه.

اللوحة للفنان “إبراهيم برغود”

خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »