اللاذقية – هيفاء بيطار
ليس الموت هو عدو الحياة، بل الخوف. لأن الموت مصير كل كائن حي. لكن تنويعات الخوف (أو الموت السوري) أصبحت جريمة يتحمل العالم كله وزرها. ولأنني أعيش في اللاذقية منذ أشهر ولم يعد بإمكاني تجاهل تنويعات الموت والجوع والقهر في سوريا فسأشهد على بعض مظاهر اللا حياة في اللاذقية.
رغم مظاهر الغنى الفاحش الذي يميز مدينة اللاذقية، إلا أنه تنتشر مظاهر الفقر في مختلف أنحاء تلك المدينة، مثلها مثل جميع المدن السورية، وبأسوأ أشكاله، حيث متوسط دخل الموظف 40 دولاراً. لم يعد السوري يحلم باللحم يطعمه لأولاده لأن سعر كيلو اللحم نصف أو ثلث راتبه. ولم يعد يحلم بالفاكهة ولا بالدجاج. لذا لم يجد أمامه سوى الخبز وبعض الخضار الرخيصة نسبياً كالخس. لكن إذا أرادت أسرة سورية (خاصة الأسر التي تصوم في شهر رمضان) أن تطعم أطفالها وقت الإفطار أرغفة خبز مع كأس شاي وصحن سلطة، فإن صحن سلطة يكلف 4000 ليرة سورية. لذا بات من الملاحظ ازدياد البدانة عند الأطفال والمراهقين بسبب الإعتماد على الخبز كطعام أساسي لسد جوع المعدة، رغم أن الخبز الذي يتم توزيعه على البطاقة الذكيه من أردئ الأنواع. جاري الفران قال لي: “ما عم نقدر نخبز الخبز لدرجة كافية لأن الدولة لا تعطينا كفايتنا من المازوت لذا نضطر لإستخراج الخبز من الفرن قبل أن ينضج”. والناس تقف طوابير (أكثر من 400 شخص) للحصول على الخبز.
ونجد في كل أزقة وشوارع اللاذقية أطفالاً ونساء يبيعون الخبز في عز الحر ليربحوا في ربطة الخبز 50 ليرة. ومعظمهم يتعرض للاعتقال من قبل الشرطة كما لو أنهم يتاجرون بالمخدرات. إحدى السيدات وهي أم لطفل رضيع قالت لي: “لا تكفيني كمية الحليب التي يعطونني إياها لإبني الرضيع، لذلك اضطررت لإرضاعه وجبتي يانسون بدل الحليب كي يشبع”. أما منظر الأطفال وحتى النساء الذين يأكلون مباشرة من القمامة فقد أصبح عادياً.
واكتملت الصورة بالحجر الصحي ضد كورونا، حيث تزدحم الشوارع بشكل فظيع حتى الساعة السابعة والنصف مساء وحين يعودون إلى منازلهم يجدونها بدون كهرباء حتى منتصف الليل. ثم يخرج علينا وزير التربية ليقول بأنه يمكن لطلاب سوريا أن يتابعوا دروسهم عن طريق قناة الفضائية التربوية، أو التعليم عن بعد بواسطة تطبيق الواتس آب، في حين أن معظم الأسر السورية الفقيرة (خط الفقر في سوريا بلغ أكثر من 80 بالمئة) لا تملك موبايل ولا واتس آب.
هنا اللاذقية، التي كان اسمها عروسة الساحل السوري، والآن يليق بها اسم أرملة الساحل السوري لأنها في حالة حداد على زوجها وأبنائها الذين ماتوا بمئات الألوف في معارك لا تخصهم أو غرقاً في البحر أو هجوا إلى بلاد الله الواسعة هرباً من الموت والخوف، حيث باتت العبارة الموحدة لكل السوريين “عايشين من قلة الموت”. الأطفال والمراهقون يشمون صمغ الشعلة تلك المادة المخرشة والمؤذية للخلايا العصبية في الدماغ، بينما يقضي بعضهم طوال يومهم نائمين حتى لا يعوا أي واقع وحشي يعيشونه. بات للخوف المُروع مفعول السم على الدماغ. فحين وعد وزير الكهرباء بعدم قطع الكهرباء في شهر رمضان، تبين أنه يسخر منهم، ومن أول يوم في رمضان استمر بقطعها والناس يأكلون على ضوء الشموع ليزيد إحساسهم بالذل.
ومع ذلك فسقف الحرية في سوريا هو إنتقاد وزير الكهرباء، لكن يبدو أن الخوف المتراكم يعطب العقول ويصيبها بما يُشبه العته الشيخي (أي الخرف)، فالعديد من السوريين المُروعين قالوا لي مبررين موقف وزير الكهرباء بأنه كان صادقاً ولم يكن ينوي قطع الكهرباء لكنه قطعها لأن ثمة معلومة شبه مؤكدة بأن نيزكاً سوف يصطدم بالأرض! فهناك دائماً من يبرر ما يحصل، فحين تتوقف أربعة أجهزة صرافة لقبض الراتب عن العمل ويعمل صراف واحد فقط يقول الخائفون بأن الشبكة معطلة من دمشق! كيف تتعطل شبكة على أربعة صرافات ولا تتعطل على صراف واحد؟ والغاية معروفة إذلال الناس بإنتظارهم لساعات أمام الصراف الآلي. الخوف هو الداء الأخطر الذي سيميت من تبقى من السوريين. الحياة في سوريا بلا كرامة وبلا عزة نفس، هي تماماً مثل الخبز المعجن لعدم توفر مازوت كاف في الأفران لإنضاجه.
أخيراً يحضرني فيلم بعنوان “الخوف” لسعاد حسني ونور الشريف، حيث كانا ينتميان لتنظيم سياسي معاد للحكومة، وهربا للإختباء في شقة على الهيكل وأبدعا في تمثيل حالة الذعر والخوف من أن تداهمهما الأجهزة الأمنية. ومرت بهما الأيام وهما مُروعان من الخوف وماتا قبل أن تداهمهما الأجهزة الأمنية. هذا ما أحسه تماماً مصير الشعب السوري. سوف يميته الخوف لأنه مُتهم بألف تهمة حتى يثبت العكس ولأن الخوف سوف يقتل شهوة وحب الحياة في روحه لدرجة يتساوى عنده الموت بالحياة.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”