رولا إبراهيم
يتخيل فيلم للرسوم المتحركة يدعى (WALL-E)، الحياة على الأرض بعد أن تصبح غير صالحة للعيش بسبب النفايات، مهجورة إلا من روبوت وحيد ينظف الأنقاض، وما يلفت نظره من ذكريات عاطفية يبقيه في مستودع، مثلاً فيديو قديم لرقص جماعي، يتأمل اللمس والأيادي ويحلم بأن يستطيع أن يمسك يد أحدهم.
يوضع البشر ضمن منتجع فضائي، يعيشون في رخاء تكنولوجي، يعانون البدانة والكسل، جالسون أمام شاشاتهم ويتواصلون من خلالها، لا أحد ينظر إلى الآخر أو يلمس الآخر، وكأن تلك حياتهم. وبالمصادفة البحتة، نتيجة أحداث مثيرة يكتشفون اللمسة، وأنهم حين يقعون لا شعورياً يمدون أيديهم للمس شيء يسندهم، وهنا يكتشفون السحر… سحر الملامسة.
هل ممكن أن يحدث هذا؟ هل يعقل أن ننسى اللمسة، والسلام، والعناق الحار بعد لقاء السفر؟
إن نمط الحياة الجديد وطقوس الوقاية من انتشار مرض كورونا سارز2 فرض نوعاً جديداً من التواصل. ذلك التواصل الذي طالما عرفناه وبات من طبيعة الحياة والتعبير التلقائي عن المشاعر، كالسلام بالأيدي، والعناق، وما يسمى بالمسافة الآمنة التي تعّبر عن الحدود الشخصية.
يحدث تغيّر أساسي في شكل التواصل الذي طوّرته البشرية عبر العصور، وهو التواصل غير اللفظي والذي يعطينا الكثير من المعلومات عن الآخر بدءاً بالمصافحة والسلام بالأيدي، إلى العناق. فطقوس الوقاية من المرض تستلزم نظرة أخرى لمعنى اليدين والتواصل باليدين.
المصافحة كانت موجودة، بشكل أو بآخر، منذ القدم، فمن خلال مد أيديهم اليمنى الفارغة، يمكن للغرباء أن يثبتوا أنهم لا يحملون أسلحة ولا يحملون أية نية سيئة تجاه بعضهم البعض. وحركة المصافحة للأعلى ولأسفل، كان المفترض بها أن تزيح أي سكاكين أو خناجر قد تكون مخبأة في الأكمام. المصافحة رمزاً لحسن النية عند أداء اليمين أو الوعد. عندما شبكوا أيديهم، أظهر الناس أن كلمتهم هي رابط مقدس.
وكان السلام يدوم طوال فترة المفاوضات حتى لا يستلّ أحد السيف غدراً، واليد الأخرى يجب أن تكون ظاهرة موضوعة على كتف الآخر، وإلى ما قبل زمن كورونا، كان من المعتاد أن يضع الرجل يده على كتف الآخر وهو يصافحه دليلاً على الألفة. المصافحة أكثر من سلام؛ هي أداة لنقل الثقة والمساواة. وهي طقس من طقوس المجاملة الاجتماعية، و يعتبر رفضها والترفع عن اليد الممدوة إهانة اجتماعية.
وقد أوضح المؤرخ والتر بوركيرت ذات مرة: “يمكن التعبير عن اتفاق بسرعة ووضوح بالكلمات، ولكن لا يتم تفعيله إلا بإيماءة طقسية: الأيدي المفتوحة الخالية من الأسلحة الممتدة تجاه بعضها البعض، ممسكةً ببعضها البعض في مصافحة متبادلة”.
ليد الإنسان قوة في اللمس والتطمين والتشخيص والعلاج.
لليدين القدرة على أن تكون امتداداً للقلب، لتعطي وتتلقى. هي الجهاز الرئيسي لحاسة اللمس، الذي يسمح لنا بتفسير أعمالنا، حتى تموضعها في جسدنا يسمح بذلك. إن تجربة أيتام رومانيا (بعد عهد تشاوتشيسكو) الذين عاشوا بدون لمس أو احتضان، عانوا من مشكلات جديّة في النمو الجسدي والنفسي، وهي تظهر لنا أننا قد نعيش بصحة جيدة بغياب الحواس الأخرى بما فيها النظر، لكننا لن نستطيع ذلك بدون حاسة اللمس إنها لغتنا الأولى.
كثير من الدراسات على النظام الحسي اللمسي تخبرنا عن تغيّر العواطف بعد اللمسة. فالنهايات العصبية في الجلد التي ترسل الرسائل للدماغ كي يفسّرها من خلال الضغط على اليد، تعطينا الكثير من المشاعر المتنوعة والمعلومات عن الآخر، كالإشمئزاز، المساندة والدعم، أو الراحة.
تقول المعالجة الفيزيائية الشهيرة جين أندرسون: “نحن نحتاج إلى أن نفرك جبهتنا ونلمس وجوهنا ونفرك يدينا ببعضهما البعض بطلب من الجهاز العصبي، إنها آليات تهدئة لمعدل ضربات القلب، فاللمس يرسل إشارات عصبية إلى الدماغ فيفرز هرمون الأوكسيتوسين، هرمون الحب، مما يقلل من مستويات الكورتيزول “هرمون الشدة” في الجلد”.
اللمس حاجة بدائية بيولوجية للبقاء، كما أثبتت تجربة هاري هارلو (Harry Harlow) القاسية على صغار القرود، حين وضع كل صغير في غرفة بعيداً عن أمه، باتت القرود هائجة وذات سلوك عدواني، فوضع مجسّم للأم من قماش وأم من أسلاك فيها رضاعة الحليب حيث بقي القرد الصغير يتلمّس الأم القماشية ويهدأ في حضنها بعد أن يأكل.
إذاً، بعد أن عرفنا كيف نحمي أنفسنا من عدوى كورونا، كيف سنعتاد على أن اللمس والمصافحة وحكّ الأنف أفعال تمثل الخطر؟ كيف سنعتاد على هذا الجفاف الجسدي بعد أن أغرقنا أنفسنا بالتواصل عبر الشاشات والمشاعر المقنّعة بالايموجي؟
إن اللمس تواصل اجتماعي، يبثّ المساندة والثقة، كيف سنتخلى عنه وعن التواصل الحسي في التعبير عن مشاعرنا وأشواقنا، وهل سنشعر بالخطر إذا ما سمعنا: “نسيت من يده أن أسترد يدي”؟
لا بد أن آلام الحجر الصحي النفسية هائلة، لأن المريض يكون بأمس الحاجة الى الاحتضان، لدرجة أن عالمة النفس كاثلين كيتنغ (Kathleen Keating) طوّرت علاجاً نفسياً اسمه العلاج بالحضن (The hug therapy).
لعلنا نفهم الآن سبب القلق العارم والكآبة في عالم متصل رقمياً لكنه غير متصل جسدياً، فهو يجعلنا نفقد الفوائد العظيمة للمس، مع قفازات طبية تشكل حاجزاً أمام آلاف النهايات العصبية التي تسمح لنا باستقراء ما نلمس.
تشير أحدث الدراسات أن العناق الافتراضي يمكن أن يمنح بالفعل بعض الراحة، عندما تصبح القواعد الجديدة للتفاعل الاجتماعي جزءًا من واقعنا، قد يتفاعل دماغنا بطرق يمكن أن توفر لنا على الأقل بعض العزاء.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”