Search
Close this search box.

الإبداع من طبيعتها

الإبداع من طبيعتها

خولة سمعان 

   لطالما كان العامل الاقتصادي من أهم المؤثرات التي تلعب الدور الأكبر في إحداث التغييرات العالمية،  سواء أكانت تغييرات سياسية أو اجتماعية. من ذلك – على سبيل المثال – دخول النساء سوق العمل في البلدان الصناعية إثر الحربين العالميتين في القرن العشرين وفقدان الملايين من الرجال، ما ساعد على بلورة الوعي النسوي ومن ثم صياغة الحركة النسوية (1). 

   إن التغيرات السريعة المتلاحقة التي يشهدها العالم اليوم لا تعفي الدول من إعادة النظر في نظمها الاقتصادية والعمل على تحسين أدوات الانتاج والخدمات على حد سواء بما يفي لمسايرة التطور التكنولوجي والاجتماعي والمعرفي. وبالتالي يتطلب هذا الإفادة من مجمل الطاقات المتوفرة فيها، واستثمار كافة القوى المنتجة، ما يعني إغفال المرأة ككائن فعال في أي مجتمع إنما هو تخلف على جميع المستويات – هذا عدا عن التسليم بحقوقها والتي يأتي حق العمل على رأسها –   وكما هو على الصعيد الشخصي تعطيل لمقدراتها وإضعاف لها،  فهو كذلك تعطيل لنصف الطاقة الإنتاجية والإبداعية في عصر باتت العولمة الاقتصادية أمراً محتماً في كل بقاع الأرض. 

  وبالرغم من فعالية المرأة ومساهمتها في النشاط الاقتصادي في البلاد العربيه، إلا أنها فعالية محدودة ومنخفضة المستوى مقارنة بالذكور. يعود ذلك لأسباب متعددة: اجتماعية ودينية وتعليمية وتشريعية. 

   لقد شملت سياسات التنمية والتطوير العربية المرأة في خططها الاستراتيجية، غير أن تباطؤ الانتقال إلى الحيز العملي،  أو عدم تفعيلها في بعض البلدان،  أضفى عليها صفة شبه شعاراتية في كثير من الحالات، هذا  في الظروف الطبيعية. وفي سوريا أدت الحرب إلى ما يماثل القطع  لكثير من الخطط،  كما عملت على حدوث منعطفات حادة في المسار الاقتصادي  والاجتماعي،  فظهرت احتياجات وظروف اضطرارية مستجدة نابعة من مقتضيات الوضع الراهن، من ذلك اقتحام  المرأة السورية سوق العمل. 

   لقد حسمت الظروف الصعبة الناجمة عن الحرب مسألة تردد المرأة نفسها في الإقدام على العمل،  كما عملت على خفض الضغوط الاجتماعية والدينية (مع ملاحظة تصاعد التيار الديني السلفي). وزيادة على ذلك اقتحمت المرأة مجالات العمل التي كانت محصورة بالرجال،  كالأعمال التي تتطلب مجهوداً عضلياً،  ( عملت إحداهن سائقة سرفيس في دمشق)  وتم بذلك كسر الحواجز الجندرية بحدود متفاوتة حسب المناطق وحسب الاحتياجات. 

   هذا، على أن دخول المرأة ميدان العمل لم يأت ضمن عملية إدماج مدروسة،  فمن أجل دمج المرأة في العملية الإنتاجية لا بد من تأهيلها وخلق البيئة الملائمة لعملها، ما ينبغي على الحكومات والمؤسسات ذات الاختصاص الاضطلاع بالأمر لتأمين الكوادر المعرفية والعملية وإيجاد مشاريع حقيقية على الأرض بشقيها التدريبي والانتاجي. وعلى ذلك الأساس لا بد من رصد  ميزانية مالية في إطار الخطة التنموية. 

   تتأتى ضرورة هذه الخطط من أسباب عدة،  أهمها: نجاح عملية دمج المرأة في الحقل الاقتصادي وإثمار قيمة عملها،  وتجنيبها الاستغلال والضغوط الناجمة عن غياب البيئة الملائمة لعملها،  الأمر الذي قد يقودها إلى ردة فعل نكوصية ربما تعيدها إلى قوقعة الماضي.

في تقرير لمعهد ماكينيزي العالمي(2) ،  جاء فيه: أن مساواة المرأة مع الرجل في سوق العمل يمكن أن يضيف 12 ترليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2026،  كما أن إعطائها حق المساواة في سوق العمل بالمنطقة العربية وإيران وتركيا سيضيف 27 ترليون دولار إلى إجمالي الناتج المحلي بحلول 2025

    على أن ظروف الحرب المستعرة في سوريا لسنوات عدة لم تترك خياراً لأحد،  وقد رأينا ما أسفرت عنه بالنسبة للنساء والأطفال الذين لم توفرهم في مآسيها الشديدة،  ومما يثير الدهشة والافتخار بخاصة قدرة المرأة السورية على الوقوف في وجه كل الأخطار التي كادت تطيح بها وبأسرتها وبكيانها. لقد أثبتت لنفسها وللعالم بأسره جدارتها الفائقة في كل المستويات،  كالقدرة على ابتكار أساليب توافقية للتكيف مع ظروف الهجرة والنزوج،  كذلك إمكانية اختلاق منابع للحياة مع انعدام كافة مقومات العيش الطبيعي،  انعدام الماء والكهرباء والغذاء،  والأهم: انعدام الأمان. كذلك قدرتها على اتخاذ القرار المناسب في الأوقات العصيبة،  ما يؤهلها ليس إلى العمل فحسب،  بل إلى الفئة القيادية.

   من البديهي أن نتذكر أن المرأة السورية اقتحمت ميدان العمل في فترات مبكرة بالنسبة إلى زميلاتها العربيات،  وقد كانت في كثير من الأحيان أقرب إلى نموذج ( المرأة الخارقة)  (3)،  فقد كانت وهي العاملة الموظفة يتعين عليها أن تعمل كزميلها الرجل ثماني ساعات يومياً خارج المنزل،  وكانت بالوقت نفسه تقوم بإدارة شؤون بيتها بنجاح كبير،  فتعتني بالزوج والأطفال ونظافتهم ونظافة المنزل،  وتقوم بإعداد الطعام وتخزينه ( المؤونة)  وتلد وترضع.  وقد نجحت في الجمع بين هذه المهام كلها إلى حد كبير،  علماً أن هذه الأعباء تنقسم إلى ثلاث مجموعات رئيسة في تصنيف عمل المرأة،  إذ يقسم علماء الاجتماع عملها داخل المنزل إلى قسمين أساسيين: الرعاية والانجاب. أما عملها خارج المنزل فهو وحده قسم ويساوي عمل الرجل، بالرغم من افتقارها البيئة المساعدة في بلادنا من المؤسسات والهيئات التي تم إنشاؤها في الغرب والتي تقدم  الخدمات وتسهل  عملها  كالمطاعم بأسعار مدعومة والنوادي العائلية ودور الحضانة ورياض الاطفال كما وفرت لها وسائط النقل والمواصلات السريعة والمريحة. ولا داعي للقول أن معاناة المواصلات وحدها في بلادنا تكفي لأن تكون  معاناة  حقيقية،  كذلك يجب أن لا نغفل القول أن الرجل الشرقي لم يتقبل بعد ثقافة التعاون والدعم والمساندة للمرأة،  فهو ما يزال يتمدد على الأريكة متقاعساً عن خدمة نفسه،  يصدر الأوامر والنهي. 

وإن كان قد مضى وقت طويل لا يُنظر فيه إلى عمل المرأة داخل المنزل على أنه ذو قيمة  تبادلية،  فقد حان الوقت لإعادة تقييمه على أساس القيمة الزمنية والجهد النفسي والعضلي،  والأهم تقييمه على أنه  العمل الذي يؤسس  ويهيئ  القوى المنتجة (إنجاب وتربية الأبناء وتهيئتهم) وإن كان عمل المرأة داخل منزلها  غير محدود بساعات دوام محددة ولا بمهام معينة، ومن اللاعدل اسقاطه من سلم الأعمال ذات القيمة الاقتصادية. من هنا يعمل  فريق من الباحثين الاجتماعيين على تعيين طرق لتحديد البدل المالي  المستحق بطريقة مسح الوقت المستخدم في انجاز مهام منزلية محددة (4).  

   في ظل الحرب الدائرة في البلاد واجهت المرأة السورية المأساة بكل شجاعة وذكاء،  وبلا أية موارد أو معطيات أخرى،  فقد كان عليها أن تبدأ بلا قاعدة مالية ولا مساندة أو تدريب،  ووجدت في بعض الأحيان لزاماً الاعتماد على قوتها الجسدية أو مهارتها الفطرية. بعض السيدات شرعن في إعداد الخبز يدوياً فأقمن أفراناً بأيديهن،  هناك من حملت الخضار والفواكه لتبيعها في زاوية ما،  أخريات عملن ورشه لإعداد المؤونة بكميات لبيعها. لكن أن تقتلع المرأة الحجارة وتبيعها لتطعم أطفالها فإنها غاية النبل من جانبها هي،   ومنتهى القسوة التي أحيطت بهذه السيدة.  نعم هي تلك المرأة الأم التي انعدمت من حولها كافة سبل العيش،  لا شيء سواها وأطفالها الأيتام الأربعة،  ثلاثة منهم    معاقون،  أي يعتمدون عليها اعتماداً كلياً،  من هنا اشتهرت في قريتها ( بأم المعاقين)  قرية المجيمرة التابعة لمدينة الحسكة. 

  لم تجد هذه السيدة  ما يعينها على معاناتها، لا شيء سوى التراب والحجر في قريتها النائية،  فكرت وتوجهت إلى الصخر،  حملت فأسها وأخذت تقتلع الحجارة وتبيعها لتعود إلى منزل من الطين واللبن حيث ينتظرها أولادها الثلاثة المرضى،  الأول مصاب بالشلل،  والثاني يعاني من ضمور دماغي،  أما البنت فقد كُسِر عظم جمجمتها إثر حادث سيارة،  الصغير هو من يمكنه مرافقتها وأداء بعض الأعمال.

   أية همّة تتمتع بها هذه السيدة؟  أية عظمة هذه التي تخلق من الصخر غذاءاً ودواءاً لأطفالها؟  أي عذاب تختزنه هذه المرأة الوحيدة؟   وأي جمال ينبع من قلبها الأمومي المعطاء.

   _________

  • يعرف معجم أوكسفورد الحركة النسوية كالتالي: الاعتراف بأن للمرأة حقوقاً وفرصاً مساوية للرجل في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية.

 وفي معجم ويبستر هي: النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً،  وتسعى كحركة سياسية إلى دعم المرأة واهتماماتها وإلى إزالة التمييز الذي تعاني منه. 

 

  • المرأة الخارقة: مصطلح في علم الاجتماع يشير إلى المرأة الغربية التي يمكنها القيام بالعديد من الأدوارفي نفس الوقت كعاملة وربة منزل ومتطوعة وطالبة..
  • معهد ماكينيزي، دراسة حول المرأة والاقتصاد العالمي. 
  • دعت الأمم المتحدة الدول الأعضاء في مؤتمر بيجين الرابع للمرأة إلى العمل على تقدير البدل المالي للعمل المنزلي ليٌصار إلى دمجه في الناتج الوطني الإجمالي.

خاص ب”شبكة المرأة السورية

 

 

 

 

  

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »