دمشق – سلوى زكزك
يواجه العالم جائحة فيروس كورونا بالمزيد من الإجراءات الحازمة طبياً ولوجستياً وتوعوياً في معركة تشبه السباق مع الزمن لحصر انتشار الوباء وتقليل الإصابات وضمان سلامة سكان الأرض.
لكن البعد الاقتصادي يفرض نفسه بقوة ويهدد اقتصادات الدول الكبرى في العالم بكوارث كبيرة. لذلك تحاول تلك الدول بذل جهودها القصوى واستنفار كل قدراتها المادية والاقتصادية على أمل التخفيف من الخسائر قدر الإمكان.
في سوريا واجهت السوريين والسوريات مشاكل نقص السيولة، وأجبرتهم على اللهاث وراء احتياجاتهم الأساسية وخاصة المواد التموينية مثل الخبز والأرز والسكر والشاي والزيوت، مما حرمهم من ترف الجلوس في بيوتهم لتأمين مقومات الحماية الأساسية التي يدعو إليها الجميع من موظفين رسميين ومن أطباء ومن منظمات أهلية ومن مهتمين بالشأن العام.
أُغلقت المخابز منعاً للتجمع بداعي حماية السكان، وسُلمت عملية توزيع الخبز لمعتمدين محليين، وهؤلاء المعتمدون تعذر عليهم الوفاء باحتياجات جميع العائلات المشمولة بخدماتهم، بسبب الازدحام الشديد وسوء التوزيع، وبحجة أن الجهات المسؤولة لم تسلمهم كامل الكمية المطلوبة، حسب ما أعلنوا.
وصل سعر ربطة الخبز السياحي إلى (800) ليرة سورية، وهو مبلغ يساوي (16) ضعف قيمة ربطة الخبز الحكومي، وتراجعت جودة الخبز الشعبي الموزع عبر المعتمدين، حتى الخبز الأسمر أو خبز النخالة المخصص لمرضى السكري تضاءل حجمه بحيث لا يكفي لقمتين.
وتضررت النساء العاملات في الخدمة المنزلية بسبب الكورونا، وتوقف عملهن تماماً. كما تم منح العاملات في المعامل الخاصة إجازات بلا أجر، عدا عن خروج مئات النساء اللواتي يبعن الخبز بربح قليل على أبواب المخابز من ساحات العمل، والذي صنف كعمل في الظل. وتوقف أيضاً عمل الطباخات في البيوت الخاصة وعمل البائعات في متاجر الألبسة ومراكز الخدمات، وخاصة الخدمات الترفيهية. وطال الأمر عمل النساء في النوادي الليلية وفي المطاعم والبارات، وحتى في الدعارة.
وفي ظل ارتفاع جنوني للأسعار وطلب متزايد على الطعام خوفاً من الحجر الطويل في البيوت أو تلبية لحاجة أفراد العائلات الذين تجمعوا معاً تحت سقف واحد، في ظل كل ذلك كان لابد من خطط بديلة، خطط لا تتضمن أبداً تطبيق المثل الشائع: خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود، لأن السوريين، وخاصة السوريات تلونت أيامهن كلها بالأسود. ففي الوقت الذي تحولت فيه المرأة السورية إلى قوة العمل الأكثر عدداً، إلا أنها لم تملك فرصة الادخار لمثل هذا اليوم، فعجزت عن تأمين البيوت بمونة كافية لأيام الحاجة والحجر ومنع التجول.
واستجابة لهذا الوضع، تكونت بعض المبادرات في مدن مثل السويداء وحمص والسلمية والتل بريف دمشق، حيث بادر بعض الأفراد، معظمهم من فئة الشباب للإعلان عن استعداهم /هن لتوصيل المواد الأساسية والأدوية للمحتاجين، وخاصة من كبار السن والوحيدين.
وقد أشارت منظمة الأسكوا للسكان بأن الكورونا ستودي بثمانية ملايين شخص في الشرق الأوسط إلى حدود الفاقة حتى الجوع المدقع، فهل يبدو هذا الرقم حقيقياً؟ لا أظن ذلك! في لبنان وحدها سبعمائة ألف لبناني تحت خط الفقر ويواجهون خطر الجوع المستدام. وفي مخيمات اللجوء والنزوح مئات الآلاف أيضاً بلا موارد ولا خطط حماية. وماذا عن السوريين الذين تم إعلان أن ما يزيد عن ثمانين بالمائة منهم تحت خط الفقر، استناداً إلى المعايير الدولية؟
تبادل بعض الأهالي ما يفيض عن حاجتهم مع من يحتاجون الفائض من مونتهم، لكن من سيعوض لهم ما منحوه؟، وتم توزيع سلل غذائية وأدوية، لكن التوقعات من أن تطول فترة الحجر تشعل المخاوف وتجعلها أكثر ضغطاً، خاصة في ظل توقف العمل الخاص وتوقف السفر ما بين المحافظات وما بين المدينة والريف. وهذا المنع كله قد يعيق تواصل الأفراد مع بعضهم وخاصة الأهل والأقارب الذين قد يسدون العجز الحاصل، كل حسب مقدرته.
بالأمس وقبله، كنت شاهدة على تفريغ منزلين من المستأجرين لأنهم لن يتمكنوا من سداد بدل الإيجار الشهري بعد أن فقد الزوجان عملهما دفعة واحدة. ومنذ أسبوع أيضاً، أجبرت الكورونا سيدة على تسليم منزلها المستأجر في إحدى ضواحي دمشق والعودة إلى منزل أهل زوجها لتعيش فيه مع أولادها الثلاثة مع عشرة أفراد آخرين، لأن الأم لم تعد قادرة على العمل في بيوت دمشق بسبب وقف التنقل بين المدينة والريف. كما أن الابن الأكبر، والذي كان يعمل في معمل إسفنج، توقف عن العمل أيضاً بسبب القرار القاضي بإغلاق كل الفعاليات الاقتصادية غير المختصة بالطعام والدواء والاستشفاء.
مع كورونا ظهرت إلى السطح المشاكل الاقتصادية الكارثية متلازمة مع النتائج الصحية، لا بل أسرع منها وأشد أذى، لأن البنية الاقتصادية العامة والخاصة للأفراد بالغة الهشاشة والتكافل الاجتماعي مرهون بمبادرات قليلة العدد وضيقة الإطار، والحاجات أكبر من أية عمليات تكافل.
إن ما يميز السوريين والسوريات في مواجهة وباء كورونا أمران، أولهما الاستسلام القدري الناتج عن قلة الحيلة وعن الخيبة الناجمة من حصيلة سنين عشر فاقمت من العوز والتعب وغياب فرص النجاة والأمن الغذائي. والأمر الثاني هو غياب الثقة بالمستقبل برمته، وإن كان ما يرسله الأبناء أو الأخوة للأهل قد شكل باباً للفرج والطمأنينة المادية وساهم بتحقق تكافل نسبي. إلا أنه الآن وفي زمن الكورونا قلّت تلك الموارد وبات القلق متبادلاً وعاماً، لأن الكورونا وحدت ما بين الجميع؛ في القلق وفي شح السيولة وفي الخوف من القادم.
لم يعد الحزن والخطر القادم مرتبطاً بالحاضر القاسي فقط، ولا بالنقص والشح المقيمين، بل بما يستجد من خوف جديد؛ خوف يتعاظم وينتشر كالنار في الهشيم، من كل شيء، حتى من تحية الصباح ومن العيش مع الآخر برفقة كل هذه المخاوف.
اللوحة للفنان “محمود عباس”
خاص ب”شبكة المرأة السورية”