Search
Close this search box.

أنتِ امرأة: لن تقدري!أنتِ امرأة: استطعتِ وسطعتِ

النساء السوريات يقاومن الحرب بطريقتهن الخاصة

أنتِ امرأة: لن تقدري!أنتِ امرأة: استطعتِ وسطعتِ

خولة سمعان 

إننا هنا في هذا الواقع المظلم نبصر نقاطاً مضيئة بالرغم من التعتيم المتعمد، هنا في مناطق ومدن وأرياف الداخل السوري،  حيث الموت يتربص بالناس في كل لحظة،  حيث القصف من كل حدب وصوب والحصار إلى حد الموت جوعاً، ولكن المقاومة للبقاء على قيد كل شيء كانت طريقة السوريات الخاصة في زمن الحرب، فكن حاضرات في كل مكان على مدار الأعوام التسع الماضية.

هناك مجتمعات كاملة، بشر، عائلات فيها المسنون وفيها الأطفال، فيها الرجال والنساء، يقاومون القتل والدمار والجوع.. يقاومون أفدح ما ترتكبه البشرية من قتل جماعي..  هناك لم تكن المرأة مجرد فرد من الأفراد الذين يُحدِق بهم الموت والقهر،  فما عقدت ذراعيها بانتظار النهاية،  بل راحت تنثر الحياة في وجه الموت وتحاصر الجوع بابتكار الغذاء،  وتلملم  أفراد الأسرة كما تلملم الأشلاء، وهي هذه المرأة العادية،  المرأة الأم والزوجة والبنت،  لم تنل تدريباً من قبل يؤهلها لمعايشة مثل هذه الأزمات القاسية،  ولم يُنظَر إليها على أنها كائن فعال يمكن أن يساعد الآخرين في حالك الظروف.

   بالعموم:  إنها المرأة التي لم تتقن الامتناع عن القيام بأي عمل أو مساعدة تُطلب إليها في أي ساعة من ساعات اليوم،  فهي لا تمتنع عن الاستيقاظ ليلاً لتلبية احتياجات أطفالها مهما بلغ منها التعب في نهارها،  ولا تعترض على أي خدمة تؤديها لأبيها أو زوجها أو أولادها،  ولا تكتفي بالعمل لساعات محددة في اليوم،  إنها – طالما هي موجودة – مستعدة للعطاء والمساعدة،  وهي لا تختص بعمل واحد تقوم به كنظافة المنزل أو إعداد الطعام..  فهي التي تعثر على الأشياء عندما يضيعها الأولاد،  وهي التي تنظم الفوضى في البيت،  وتصلح ما فسد من الأشياء،  وتواسي من كان به أسى،  وهي بعد ذلك تنشر الطمأنينة والدفء في المكان فتزرع الورود والحب.

   إنها هي التي ابتكرت من أعشاب الأرض طعاماً عندما عزّ الطعام في سنوات الحصار الجائر، وأزاحت شبح الموت حين جعلت تهدهد للأطفال الذين نشب الجوع مخالبه في أجسادهم الضاوية،  لأنهم حاربوا الأطفال أيضاً فمنعوا عنهم الحليب. لم يكن ظهور المرأة وفعالياتها في سنوات الحرب المدمرة ومضة مفاجأة،  فلقد شاركت منذ البداية في المظاهرات السلمية المنادية للحرية والكرامة،  ما جعلها ضمن قوائم  الاختطاف والمطلوبين إلى سراديب الاعتقال والموت. 

  ولا تزال المرأة السورية تقاوم محاولات إبعادها وإقصائها إلى الصفوف الخلفية في كل مرة كانت تتسع فيها دائرة المعارك وسطوة العسكرة،  إلى جانب معارك تخوضها ضد التطرف الديني، ومع استمرار العنف والسلاح والبطش ساهمت السيدة السورية بشكل فعال في الأعمال الإنسانية كالتمريض والإغاثة،  وخرجت إلى الإعلام  مبادرات نسائية جريئة دونت الواقع ونبهت العالم إلى ما يحدث،  فكانت في الصفوف الأولى،  من أولئك نذكر مها الخطيب الطالبة الحقوقية التي رفعت صوتها صارخة: ( صوت المرأة ثورة وصوت الرجل عورة)  كذلك الصيدلانية الناشطة مارسيل شحوار من حلب التي كان لمدونتها ( لمحات)  دوراً واسعاً في كشف المآسي التي تعرضت لها مدينة حلب،  كما كان لمدونة ( طباشير)  لصاحبتها ديما العطار والتي قامت بخياطة الأعلام والملابس وعملت في مجال الحقوق والإغاثة الطبية وتخفيف معاناة النازحين ومداواتهم وفي مجال الإعلام.

وكي يكون  نشاطها أكثر فعالية سعت المرأة السورية إلى تأسيس منظمات مجتمع مدني من أجل تأهيل وتمكين باقي النساء،  كي يتمكّنّ من مساعدة المتضررات والناجيات من المعتقلات،  فقد كان الواقع السيء والعنيف يتطلب المزيد من الجهود(1)  فبات تأمين المواد الغذائية والأساسية من الأهمية بمكان كحليب الأطفال والدواء وما إلى ذلك..  نذكر من هؤلاء السيدة الصيدلانية سوسن السعيد التي قامت بتأسيس منظمة ( بارقة أمل النسائية)  في ادلب،  وانبثقت العديد من المؤسسات المدينة بمبادرات نسائية واثقة من نفسها مؤمنه بواجبها الانساني،  نذكر منها على سبيل التذكر لا الحصر شبكة الصحافيات السوريات وهي مؤسسة مدنية تدعم قيادة المرأة للمؤسسات الإعلامية،  كذلك مبادرة ( شابات سوريا)  ومنظمة ( النساء الآن من أجل التنمية).

  في دراسة قدمتها شركة أنتيغريتي للأبحاث والاستشارات في لندن  (2) في عام 2013 تذكر أنها تواصلت مع (33) منظمة ومجموعة وشبكة نسائية ناشطة في قطاع تقديم الخدمات الانسانية. في الخارج،  في بلاد اللجوء جاهدت النساء من أجل تجميع الأجزاء المبعثرة،  فمدت يد العون للسيدات اللاجئات في البلاد التي أصبحن فيها،  لذا قامت بتأسيس منظمات إنسانية في تركيا والأردن ولبنان وبعض بلاد أوربا،  وكان لها صدى طيباً في الأعم الأغلب،  نذكر من الناشطات في تركيا مجد عزت الشربتجي والمحامية ديما موسى.  كذلك نذكر المهندسة هدى أتاسي التي عملت في المجال الإنساني قبل خروجها من حمص،  واستمرت في مساعدة اللاجئين السوريين بعد هجرتها إلى واشنطن من خلال منظمة ( كير) .  والسيدة ساندرا بيطار وماريا عبادة اللتان لم تتوقفا عن المساعدة  عبر المؤسسة نفسها ( كير) . 

   ولطالما كان توثيق الانتهاكات التي ارتكبها النظام عملاً لا يقل خطورة عن أي عمل ميداني كما نعلم،  بل إن خطورته مضاعفة كونه من الأعمال المحظورة والمجَرّمة لدى النظام أو القوى الظلامية الأخرى التي تبطش في الأرض،  ولأنه عمل ميداني، إننا  هنا نتحدث عن ينبوعي عذوبة ودفق ضوء: السيدتان السوريتان: الطبيبة أماني بلور والمخرجة وعد الخطيب. 

في ( الكهف)  وهو مستشفى تحت الأرض في الغوطة الشرقية بريف دمشق تم تحويل أحد الأقبية إلى مستشفى ميداني لأن المشافي الموجودة تم قصفها وتدميرها كما دٌمرت المخابز والمنازل وكل ما يرمز إلى الحياة. دام الحصار لأكثر من خمس سنوات في الغوطة وكان على الطبيبة أماني بلور مديرة مستشفى الكهف الميداني أن تتحمل إلى جانب مهامها الطبية مسؤولياتها الانسانية والصحية والإدارية عن المستشفى وأرواح الناس ولا سيما الأطفال كما كان عليها تحمُل الضغط الاجتماعي المحافظ الذي يرفض ظهور المرأة في الحياة العملية،  فكيف وهي تترأسه؟

 عندما بدأوا بتحويل الكهف إلى مستشفى كان ينقصهم الكثير من المعدات الطبية والكادر المؤهل،  وكان على الدكتورة أماني أن تفعل كل شيء بنفسها كونها مديرة المستشفى في وضع محاصر تماماً،   كتأمين المواد الطبية وحماية الجرحى والمصابين وحماية المستشفى من القصف وإعداد وتجهيز الأنفاق من أجل تهريب المواد اللازمة والأجهزة والمعدات الطبية،  كما كانت تهتم بالوقت نفسه بترتيب التحصينات للمشفى والكادر الطبي والمسعفين..  وهي تستقبل العشرات من الجرحى والمصابين والمرضى،  بينما راح ثلاثة مصورين ناشطين بتصوير الوقائع اليومية وهم ( أبو الخير الشامي)  و( محمد إياد)  و( عمار سليمان)  وغالباً ما كانت الدكتورة أماني تقع تحت عدسات الكاميرا دون أن تنتبه وهي تداوي جراح الأطفال وتعالج الحالات التي تفطر  القلوب  كأطفال فقر الدم الذين كان حلمهم رغيف خبز أو قطعة بسكويت..  تتألم للأطفال المبتورة أطرافهم في حرب ظالمة لا يعرفون ذنبهم فيها،  وتتصدى لمواقف الكبار الذين لم يتمكنوا من قبول شابة في موقع أعلى،  إلى أن أثبتت لهم بجدارتها ونجاحها خطأ تفكيرهم هذا. 

   تقول الدكتورة أماني بلور: “لقد دفعني إلى النجاح قولهم لي ( أنت امرأة ولن تقدري على إدارة مستشفى)،  كما دفعني إلى دراسة الطب قولهم لي من قبل ( سوف تأخذين الشهادة وتعلقينها في المطبخ)” تكمل: “لقد شاهدنا أسوأ ما حصل في العالم من دمار وقتل،  أذكر من الجثث والأشلاء الكثير،  هناك أشلاء شخص كان ما يزال قلبه ينبض بينما جسده مدمى مبعثر على الأرض، إن أكثر ما يجلب العذاب إلى نفسي النظر في عيون الأطفال وهم يتساءلون: لماذا؟”

مع ذلك تقول الطبيبة السورية “لقد كانت سنوات من  العطف والأمل والتكافل والصبر والعمل بإيمان بالنصر والحق.. لقد تلاشى أملنا في الشهر الأخير حين تحول القصف إلى عملية إبادة كاملة،  شهر كامل لم نخرج من تحت الأرض،  الأطفال لم يروا النور أبداً”وتضيف :”لقد صورنا وأرسلنا نداءات وناشدنا كل العالم،  كنا أكثر من أربعمئة ألف شخص نباد بقصف محموم بعلم ومرأى المجتمع الدولي كافة، قبل خروجنا إلى الباصات الخضراء لم أتمكن من رؤية الغوطة،  نظرت إلي المدى فما كان سوى الخراب والدمار والأنقاض والجثث والدم،  وتحت الانقاض كان هناك أناس ربما لم يفارقوا الحياة بعد!”

  حصلت الدكتورة أماني بلور على جائزة (مجلس أوربا راؤول والينبرغ)  لعام 2020،  وترشح فيلم الكهف الذي تم تصويره في مستشفى الكهف وأخرجه السوري فراس فياض إلى الأوسكار.

عن وعد الخطيب

تقول وعد الخطيب:”لقد نجوت،  إنني في مكان آمن، لكني مدمرة تماماً” قامت وعد الخطيب بتوثيق خمس سنوات من القتل اليومي في مدينة حلب،  في البدء استخدمت كاميرا الهاتف المحمول،  والتقطت المشاهد بعيني امرأة – على حد تعبيرها – تدرك أنها قد تموت مثل كل هؤلاء الناس تحت القصف والدمار،  تتحدث مع الكاميرا وكأنها تتحدث إلى نفسها،  لتخلد لحظات الموت القريب،  توثق كل ما يقع في المستشفى الميداني الذي يديره زوجها الدكتور حمزة الخطيب والذي سيصبح المستشفى الوحيد في حلب الشرقية المحاصرة،  توثق كل ما يقع،  زواجها من الدكتور حمزة،  ثم مجيء طفلتها سما والتي ستهدي هذا العمل لها وستنتج منه فيلماً بعنوان ( إلى سما). 

تقول وعد الخطيب :”عندما يحدث القصف وتكتشفين أنك لازلت تعيشين،  أنك حية لم تموتي،  إنها حياة أخرى، هذه المشاهد من حياة ناس عاديين لا يريدون سوى البقاء في بيوتهم والعيش بحرية وكرامة،  لقد كانت حياتنا معاً تحت  القصف والحصار والترويع مفعمة بالحب والأمل واليأس والموت”.

تم ترشيح فيلم ( إلى سما)  إلى جائزة الأوسكار،  ونافس الفيلم الفائز بالمركز الأول،  ورأى العالم ما حصل في حلب وعرفوا أن هؤلاء الذين يقتلون في صمت العالم كله ليسوا إرهابيين كما يسميهم النظام،  إنهم نحن ببساطة،  ننتمي إلى هنا،  وندافع عن وجودنا وحريتنا وانسانيتنا.


  • تقرير لقناة DW بتاريخ 2/11/2012
  • F. Research &Consultancy.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »