Search
Close this search box.

فرادة اللحظة التاريخية: المرأة اللبنانية تقتحم مشهد الثورة

فرادة اللحظة التاريخية: المرأة اللبنانية تقتحم مشهد الثورة

غالية الريش

إنها اللحظة التاريخية التي حصل فيها ما لايحصل فيها خلال سنين طويلة، اللحظة التي تكاثفت فيها كل التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فحملت مالا تستطيع حمله من شقاء الناس، وعذابات مسلوبي لقمة العيش والدفء والسكن اللائق والماء والكهرباء والمحروقات والضمان الصحي والاجتماعي، وجنى العمر الذي تحول أموالا منهوبة أو محجوزة، كما راكمت جهود المدافعين عن التعليم الحكومي بكل مستوياته ونضالات المنادين بإسقاط النظام الطائفي منذ العام 2003 وتظاهرات المطالبين بالدولة المدنية اللاطائفية – إلى هيئة التنسيق النقابية التي وحدت الشعب اللبناني حول مطالبه المعيشية، إلى نضالات الطبقة العاملة واتحادها قبل أن تضع أحزاب السلطة يدها عليه وتعطل دوره بعد تطييفه.

امتلاك الشارع ، امتلاك الفضاء العام:

يمتلك لبنان تاريخياً مجموعة من المزايا التي يتفوق فيها على أقرانه في البلدان العربية المحيطة مايتعلق بالحريات السياسية العامة والفردية، وأهمها حرية التعبير والإعلام رغم محاولات نظام الوصاية السورية السابقة وهيمنة أجهزتها الأمنية، بفرض نمط الحكم الديكتاتوري السوري على الشعب اللبناني، الذي أبدى مقاومات مستمرة، لصون حرياته فضلاً عن محاولات بعض الأطراف المهيمنة في السلطة اللبنانية، وداعميها للتضييق على هذه الحريات لاعتبارات تبدأ من العامل الديني- الطائفي، ولاتنتهي في قمع أي معارض لسلطة هذا الزعيم الطائفي أو ذاك.   

فيما كان ولايزال في بلد الجوار سورية، باعتبارها الأكثر تأثيراً وتأثرا بما يجري فيها على الداخل اللبناني، حيث نظامها القمعي الاستبداي في سورية يمنع أي  حق  في التظاهر والاحتجاج والتعبير بكل مستوياته. الجميع يدرك ما آل إليه هذا القمع من مصير أسود على البلد  تبينه الوقائع الكارثية وما انتهت إليه سورية من دمار ونزوح سكاني غير مسبوق واحتلالات دولية بالجملة حولت الجغرافية السورية فيها إلى ساحات حرب متواصلة، رغم كل ذلك، وانعكاس الصراعات الاقليمية بكل تعقيداتها على الداخل اللبناني إمتلك اللبنانيون سلطة الشارع كفضاء مفتوح في ايصال الرسائل إلى كل من يهمه الأمر أولاً إلى الطبقة  السياسية التي لايمكن أن توجز طبيعتها بـ”الفاسدة” كوصف لنهجها الطويل في النهب الداخلي المنظم، وثانياً إلى الرماديين والحياديين في كل مواقعهم وردود أفعالهم السلبية بضرورة انخراطهم ونزولهم الى الشارع، وثالثا إلى جماهير الأحزاب التقليدية بالانفكاك عن قادة أحزابها وأطرها الطائفية، وإعادة الإعتبار لمواطنة لبنانية جديدة متجاوزة لانقسامات المجتمع اللبناني، وتحزباته الطائفية، وهو مالاقى ردودا قمعية خفية ومعلنة ” لضب” تلك الجموع المتفلتة من الطاعة الحزبية، وإخضاعها من جديد بعصا الطاعة للزعيم وللولاء الطائفي الضيق، ورابع تلك الرسائل إلى كل مايحيط لبنان من إقليم مضطرب ودول “ديناصورية” جبارة أن في هذا البلد شعب حيّ، لن تقف حائلا في وجهه صراعات المنطقة وتكالب القوى الكبرى على نيل حقوقه وحقه المشروع في الحياة الحرة الكريمة. هذا من جهة، وأن لبنان لايمكن أن يتحول إلى ساحة صراع وتصفية حسابات دولية وإقليمية.. من هنا قيمة الهتاف الجماهيري المدوي:”نحنا الثورة السلمية.. وهمّا الحرب الأهلية”

على أن ساحات التجمهر بكل ماتحمله من دلالة الملكية العامة والحق العام في حيازتها للتعبير عن مكنونات الصرخة الموجوعة لغالبية المواطنين اللبنانيين، هي خروج من غرفة الانتظار الطويل، وانتهاء لعبة تصديق الأكاذيب والوعود المخملية. فيما بعد نزعت الجماهير الثائرة نساءً ورجالا، بوعي سياسي واجتماعي عميق للسيطرة على الأملاك البحرية المنهوبة، والتوجه نحو المصارف، رأس أفعى سياسة الخراب والعبث بمصائر الناس على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية.

 لم يعبر برنامج سياسي واقتصادي لثورة شعبية بمنتهى الوضوح كما عبرت عنه صيحات الجماهير الغاضبة في لبنان وفي كل المناطق، فالبرنامج السياسي في نهاية المطاف  لم يكن منشورا بين دفتي كتاب بل أهداف صريحة ومعلنة صاغتها عذابات المتضررين من السياسات الجائرة، والصيحات الغاضبة من جور الطغمة السياسية المالية الحاكمة والمتحكمة بمصير الملايين، وهذا البرنامج على أهمية التوحد على نقاطه الحاسمة يستلهم ضرورة وجود قيادة ثورية معبرة ومفاوضة عن الحراك ولهذا الموضوع جدله ونقاشه الضروري في مقام آخر.

بعد مؤتمر الطائف وانتهاء الحرب الأهلية في لبنان، لم تتبلور حياة سياسية صحية، لأن الطائف لم يشكل قطيعة مع الحرب الأهلية ومسبباتها، ولأن القوى المشاركة في الحرب هي ذاتها التي تبوأت مراكز السلطة والقوة،في ظل الحماية السورية الأمنية- العسكرية، وفرض وصايته على مقدرات البلد، وقبول رموز السلطة اللبنانية لتلك الوصاية والخضوع لها. عمليا قوى السلطة هي الموالاة والمعارضة في آن، والصراع بين أقطابها وأحزابها ليس على البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل على حصصها ومصالحها الخاصة. انفجرت اللحظة فأنزل الوجع الناس إلى الشارع دون أمر من أحد

في ملحمة المهاباهاراتا الهندية يسأل الأمير العبد ربه: لمَ يثورُ الناس يا إلهي؟ فيرد عليه الصوت : لكي يعثروا على الجمال.. وبالفعل تولدت جماليات في سياق الثورة اللبنانية عبّرت عن عبقرية جمعية تجلت أول ماتجلت في الشجاعة، ونبل الموقف، وهي بالفعل ثورة هزت أركان السلطة الحاكمة وتمكنت من خلخلة نظامها الطائفي الزبائني ، الذي لم يتمكن أربابه وصناعه عن رأب تصدعاته المتداعية.

ثورة غير مسبوقة:

للمرة الأولى ومنذ الإستقلال يجتمع اللبنانيون حول أهداف ومطالب موحدة وتحت راية علم البلاد، وهو ماعزز تقاربهم وانتمائهم إلى وطن، بعدما عملت كل أدوات التقسيم فعلها خلال عقود لتعزيز الشروخ تحت مسميات دينية وطائفية ومعسكرية( معسكري8 و14 آذار) إذ خلقت الثورة وعيا وطنيا جامعا بديلا عن الوعي الطائفي الإنقسامي الذي زرعته الهيمنة الاستعمارية ورسخته أدواتها اللاحقة والملحقة خدمة لمصالحهم الضيقة، ولاريب فإن هذاالوعي الجديد والنوعي بمضامينه الوطنية ستظهر مفاعليه على المديين المتوسط والبعيد، مما يؤدي إلى تغيير جذري في بنية النظام السياسي والدستوري، وبعلاقته الوثيقة بالشعب كمتحد إجتماعي واحد، ويضع حجر الأساس لدولة مدنية  ديموقراطية لاتمت بصلة لـ(ديموقراطية) التوافقات والمحاصصات الطائفية.

ورغم الشوائب التي ظهرت هنا وهناك في مجرى الثورة، بفعل المحاولات الطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة لعرقلتها وحرفها عن أهدافها، أبرزت الطروحات والمواقف في الأوساط الشابة والنسوية، على امتداد كل بيئات الثورة ضرورة التغيير المنشود وتجاوز الصيغة المتهافتة للنظام الطائفي، وقدمت خميرة حية لوعي متقدم يجب ويمكن البناء عليها في كلا مساري الثورة انتصارا أو فشلا، من هنا أهمية وحدة الإرادة الشعبية لانتصارها الضروري.

برز ذلك أولاً من خلال هدم جدار الخوف الذي انهار، واهتزاز الثقة بالزعماء الطائفيين، وفرض الحوار كأداة للتفاهم حول القضايا والمشكلات الكبرى والمسائل الخلافية ذات الأهمية، وظهرت الجرأة التي تثير الإعجاب حقا في التعبير عن المشكلات ووضوح الرؤى في تقديم الحلول المقترحة، والأهم من ذلك عدم الذهاب في الخداع الذي تضمنته الورقة الإصلاحية المقدمة من رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، التي صيغت لفرملة الثورة، والقفز فوق أهدافها، من خلال الاعتماد على استمرار آليات الاقتصاد الريعي، وسياسة التسول المالي الدولي، وما يترتب على ذلك من أعباء إضافية ترهق الاقتصاد الوطني، وغالبية المواطنين من ذوي الدخل المحدود. الورقة الإصلاحية التي نافح عنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله لأغراض سياسية هدفها الحفاظ على صيغة الحكم المركبة بتسوية2016  لم تصمد طويلاً أمام هبوب العواصف الداخلية والإقليمية والدولية، ولم تضع- أي الورقة الإصلاحية- المبضع على أصل العلة وتؤسس لبيع ماتبقى مما يسمى القطاع العام وخصخصته بالكامل.

صحيح أن الثورة قادت إلى إسقاط الحكومة، وضغطت من أجل حكومة إختصاصيين ومستقلين، ومن خارج المنظومة الحاكمة وفق برنامج قوى الثورة تضع في المقام الأول حماية لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي، والانقسامات والفوضى الداخلية، كما من المخاطر الخارجية، إلا أنها لم تتمكن من خلق حكومة وطنية شعبية مستقلة عن السلطة وأحزابها ومنطق المحاصصة الطائفية والحزبية الضيقة.

عملياً قوى السلطة، لم تكن تستعجل تقديم أي حل، والتي أفضى- بعد عناء- صراع الحصص على الكراسي الوزارية إلى تشكيل حكومة اختصاصيين لم ترتق إلى مستوى” الحدث” وملحاحية المطاليب، ما يعزز الشكوك في نوايا ومرامي السلطة لتمييع أهداف الثورة ومطالب المحتجين، وهو مايعزز ثقة المنتفضين بقدراتهم النضالية وبجدوى متابعة الضغط الشعبي لتحقيق الأهداف المطروحة على جدول الأعمال.

فرض مسار الثورة في إظهار الطاقات الخلاقة للشعب اللبناني نساء ورجال وليس أدل على ذلك في نجاح الأستاذ ملحم خلف في انتخابات نقابة المحامين لمنصب نقيب المحامين، وقد ولد من رحم الثورة، وهو ما أشاع الأمل بإمكانية استعادة الحركة النقابية من الزعماء السياسيين الذين فرضوا الوصاية عليهاوعطلوا دورها.

أما المرأة التي أريد لها أن تبقى على هامش الحياة العامة منذ زمن بعيد، فكان عليها أن تختار إما أن تكون مسحوقة، وإما ثائرة، فاختارت الإنتفاض على واقعها، وعلى ما آلت إليه أوضاع الوطن من ترد وانهيارعلى كافة الصعد، وعبّرَ حضورها الفاعل في الساحات عن طاقتها الثورية،  وطبعت الثورة بطابعها، هذا الحضور في التظاهرات المطلبية كما في حلقات النقاش وإلقاء المحاضرات، فتحت الطريق واسعا نحو إلغاء كل الإجراءات التمييزية في القوانين والممارسة ورسمت بانتفاضتها هذه الشرعية الحقيقية لحقوق المرأة.

هل تنجح الثورة.. والتفاؤل الحذر

لم يكن للثورة وزن في تشكيل الحكومة الصائرة برئاسة المهندس حسان دياب، رغم الإعلانات المتكررة بأن صوت الشارع انتقل إلى متون التشكيل الوزاري وبيانه الوزاري الذي يعد على مهل. مع ذلك فإن ما صنعته ثورة 17 ت1 يشكل أساسا لولادة جديدة للبنان تبدو بوادرها فيما يلي:

–  نهوض وعي وطني عابر للطوائف غير مسبوق، لابد أن يتبلور في إطار حركة فكرية- ثقافية وطنية  يسمع صداها في أصوات الشابات والشباب، وهي لا تلبث أن تتعاظم ويقوى عودها.

– مع أهمية وجود القضاء المستقل والنزيه في ملاحقة لصوص الحكم وناهبي الثروة العامة، فإن على ذلك أن لايكون معزولا عن مجهر قوى الثورة، وملاحقاتها لرموز الفساد ومحاكمتهم شعبيا وقضائيا من خلال نزع الثقة عنهم ومنعهم من تبوأ أي منصب حكومي، ومتابعة ملف الأموال المنهوبة بحزم وعناد لا يلين حتى إستعادتها عبر الأقنية الدولية والقضائية.

إن الإطار الضروري لإجراء التحول الضروري في بنية الحكم والمؤسسات الدستورية بلبنان مرهون بإعادة النظر بالقانون الانتخابي، وصار الحديث جماهيريا وعاما بطرح قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، وهو سيفرز حتما بعد الانتخابات المبكرة  بقوى جديدة يُعول عليها في عملية التغيير الحقيقي، كما أن المناداة بقانون مدني للأحوال الشخصية، والاعتراف بحق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها على طريق تحقيق الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة العادلة ، دولة تفصل  بين الدين والسياسة، احتراما للدين وقدسيته.

فرادة اللحظة التاريخية في لبنان الآن أن تواظب الانتفاضة على تنظيم قواها وأهدافها وصفوفها ووعي تحالفاتها في كل منعطف، وتوسيع دائرة أصدقائها وتضييق دائرة أعدائها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »