رولا إبراهيم
تقول إحدى الناجيات من العنف “اهلي قبرمسكر وزوجي قبر مفتوح”، هي التي تمشي على خط الحياة بين قبرين تستجدي شعورها بذاتها من خلال التبرج والألوان الصارخة والصوت العالي لتقول “أنا موجودة”.
تتعرض المرأة التي تعاني من العنف الزوجي لاتهامات مبطنة من ضمنها لماذا لم تتركه؟ لماذا تحمّلت كل تلك الفترة؟ إلى كل تلك الاسئلة التي توجه أصابع الإتهام إلى الضحية بدل الجاني. فما الذي يجعلها تتحمل سوء المعاملة، لماذا لا ترحل؟
تقول: “موت زوجي حياة لي” جملة فيها الكثير من الألم واليأس أنه لا سبيل للخلاص من عقد الزواج المحكم وغير القابل للانفكاك بحكم القانون والدين والعادات والتقاليد والمجتمع إلا بالموت. وأيضاً برهن الأمومة “أنا مستعدة أتحمل كل شي مشان ولادي”، وضمن كلمة “كل شي” تحملت هذه المرأة مثل الكثيرات وزر العنف الأسري بكل أبعاده الجسدي واللفظي والعاطفي.
نميل لوضع صورة نمطية للضحايا كعناوين مروّعة، نساء مدمرات لأنفسهن كبضائع تالفة. والسؤال لماذا تبقى؟ إشارة من بعض الناس على أنه ما يحدث لها خطيئتها لإنها اختارت البقاء، يقولون إن الضحايا يخترن الوقوع في حب رجال عنيفين، لكن هذا غير صحيح، إذ هناك الكثير من النساء اللواتي أثبتن في زواجهن الثاني أنهن قادرات على تبادل الحب والفرح.
كانت عالمة النفس Lenore E. Walker أول من درس شخصية النساء اللواتي تعرضن لفترات طويلة من الإساءة وخلصت إلى ما يسمى “متلازمة الشخص المنتهك” التي تفسر بواسطتها بقاء العلاقات الزوجية بالرغم من أنها مدمَّرة.
فما يحدث أن هناك نمط للعلاقة عبارة عن حلقة ثلاثية يدور فيها العنف الاسري:
المرحلة الأولى:
تعيش الوعود بحياة سعيدة ويتم التأسيس للعلاقة والثقة، ولسان حال الرجل بأني أنا من سيحميك، “أنا ملك لك وبالتالي أنتِ ملك لي أيضا”. ثم يبدأ بمحاولة محاربة استقلالها قد يكون هذا بالطريقة اللطيفة فهو لا يريدها أن تتعب لذلك يقوم بمنعها من الدراسة أو العمل، ثم يبدأ بالنيل من ثقتها بنفسها والتقليل من شأنها، عبر النقد المستمر، ويبعدها عن علاقاتها التي تمنحها القوة والدعم كالصديقات والعائلة، والضيوف الذين يأتون من جهتها غير المرحب بهم، وهكذا.. ليبقى هو الوحيد الذي تدور حوله حياتها.
المرحلة الثانية:
التوتر حيث تبدأ الاهانة والعنف العاطفي أو المعنوي، تحاول المرأة أن تداري زوجها العصبي. وتتدارك أسباب الغضب ولكن هذا لا ينفع، فيتم تفريغ هذا التوتر من خلال ممارسة الأذى اللفظي والجسدي مع لوم الضحية على التسبب في إحداث العنف.
المرحلة الثالثة:
هي إظهار المعتدي لعلامات الندم “شهر العسل” كما يقال وهنا تقرر الضحية البقاء فلديها الكثير من الأسباب التي تجعلها تستند الى أملها بأن يتغير. وقد تتخلل هذه المرحلة ليالي يرغب فيها الزوج زوجته بشدة، ولكن الشريك لا يجد حلولاً لتجنب مرحلة أخرى من تراكم التوتر وتفريغه ولذلك تتكرر حلقات العنف.
ويؤدي تكرار العنف إلى شعور المرأة بالخطأ لعدم تمكنها من منع حدوث ما يحصل. ومع ذلك، ونظرًا لأن الضحية لا تكون مذنبة مع وجود دافع الحاجة إلى السيطرة لدى الرجل المعنّف، فإن لوم النفس يؤدي إلى الشعور بالعجز بدلًا من الشعور بالسلطة. ويؤدي الشعور بالمسؤولية عن العنف والعجز عن منعه، بدوره إلى الكآبة والسلبية؛ فالكآبة والسلبية المكتسبان “يجعلان من الصعب على الطرف المتعرض للعنف ترتيب الموارد ونظام الدعم الضروريين لإنهاء هذه العلاقة” كما تقول وولكر اضافة الى فقد الدعم الاجتماعي من الأسرة الكبيرة، ومواجهتها بالجملة الشائعة “ما عنا نسوان تتطلق”، وقد اكتشفت الأبحاث التي قام بها جوندول وفيشر في الثمانينيات أن النساء في مواقف التعرض للعنف يزيد لديهن سلوك البحث عن المساعدة كلما زادت حدة ممارسة العنف. ومع ذلك، فإن محاولاتهن للبحث عن مساعدة تفشل غالبًا نتيجة عدم استجابة الأسرة الكبيرة وجهات تقديم الخدمات الاجتماعية.
إذن بسبب الطبيعة المستمرة لسوء المعاملة من قبل المعتدي، تتناقص قدرة المرأة على الاستجابة الطبيعية وهي رفض العنف، بحيث تصبح شخصيتها سلبية، مستسلمة مع تدني تقديرها لذاتها. ومشاعر مختلطة لأنها تفكر في بعض الأحيان أنها تستحق ذلك لأنها تعتبر نفسها سبب المشكلة، أو أن هذا حظها ونصيبها في الدنيا، ويزيد الأمور تعقيداً إذا كانت تتعرض لنفس العنف الجسدي والنفسي في طفولتها ومراهقتها. هذا كفيل ان تعيش في مشاعر الذنب، وأنها لا تستحق الحب والاحترام، فتعاني من سوءالمزاج والاكتئاب والشعور بالعجز، ومن اضطرابات النوم، والأكل، وتعاطي المسكنات، والحبوب المهدئة، وحتى ينال هذا من صحتها الجسدية فتعاني من آلام متفرقة في الجسم والصداع والتعب وتقل مناعتها نتيجة الضغط النفسي المستمر.
كل هذا تعيشه المرأة التي تتعرض للعنف العاطفي والجسدي دون حتى أن تسميه، تعيش أذى دون عنوان لما تعانيه، وقد تعبّر عنه بتلك الجملة البليغة “أهلي قبر مسكر وزوجي قبر مفتوح” قابل لابتلاعها في أيّ لحظة. متحملة كل ضغوط الأسرة والأمومة، والعادات والتقاليد، وجور القوانين.
فكيف للمرأة أن ترحل وكل هذه القيود تكبّل عقلها وروحها قبل جسدها؟