هبة العلي
خاص شبكة المرأة السورية
تحديات كثيرة:
مواجهات مستمرة، نقاشات، جدالات، ألقاب ساخرة، مصطلحات تخلو وتتجرد عن الانسانية. جميع هذه متلازمات لرحلة حياة المرأة في مجتمعنا العربي ولا ولن تكتمل مسيرة المرأة بعملها أياً كان إلا بالتغلب على كل هذه العقبات والصعاب وقد يكون التغلب عليها أصعب من هدف المرأة المستقبلي المنشود الذي يبدو وكأنه بحاجة لكفاح واجتهاد أكثر مما يحتاج تحقيق حلمها من متاعب وهذا يعني أنَّ طريق المرأة طريق كفاح بالدرجة الأولى. كفاح ضد بعض المفاهيم السائدة والموروثات والأفكار المتخلفة التي كانت وما زالت مسيطرة إلى اليوم على تفكير غالبية أفراد مجتمعنا. فلو نظرنا لمعظم المصطلحات السائدة لوجدنا وكأنها تخص المرأة دون الرجل ككلمة مطلقة أو عانس فهذه الكلمات تنطبق على المرأة دون الرجل وتستعمل كنوع من التمييز الاجتماعي الذي لا يختلف بحدته ووقعه عن التمييز العرقي أو العنصري، حيث يعتبر تمييزاً بين المرأة والرجل كونه لا يشمل الرجل أو بين فتاة وأخرى من قريناتها المتزوجات.
“ربا” – لست عانس فأنا ملكة نفسي:
هذه الكلمة التي تحمل في طياتها الكثير من التجريح واضطهاد إنسانية المرأة وتحملّها ذنوباً وآثاماً لم تقترفها ولا يستثني هذا اللفظ المرأة سواء كانت ناجحة في حياتها أو حققت أهدافاً كبيرة خدمت فيها المجتمع، ولا يستثني من تفانت بالعمل من أجل غيرها سواء عائلة أو أهل، بل وتختلف نظرة المجتمع للفتاة التي تأخرت في سن الزواج من شخص لآخر كل حسب مزاجيته بالدرجة الاولى ومن ثم ثقافته وتربيته حيث تروي “ربا” والتي تجاوز عمرها اليوم الثلاثين عاماً، تقول: “إن صديقاتي في بعض المحافظات الأخرى يصلن لسن الثلاثين ولا يطلق عليهن هذا اللقب، أما أنا فالجميع يعرف بأنني عانس وتجاوزت سن الزواج”. تحكي ربا قصتها ومرض أمها المفاجئ الذي جعلها قعيدة الفراش، مما اضطرها لترك دراستها في كلية الهندسة الزراعية السنة الثالثة، كيف لا وهي الفتاة الوحيدة في العائلة. تقول ربا: “توقف بي الزمن هنا وتوقفت حياتي بمرض والدتي فأنا اليوم حبيسة المنزل جليسة والدتي وممرضتها، أصبحت كالمنبه أصحو على موعد الدواء وعلى صوت أنينها وأنام مع موعد نومها وكأن لدي طفل صغير وبرمجت حياتي على هذا الأساس، اتقنت مهمتي الجديدة وأحببتها لحبي لأمي وأصبحت أجيد استقبال الضيوف وأدبّر المنزل بشكل جيد فأصبحت سيدة البيت الصغيرة”.
وتكمل ربا بالقول: “لم انتبه لنفسي يوماً، فمهمتي تحتّم عليَّ ذلك وطول مرض أمي لم يثني من عزيمتي بالاهتمام بها أو ينتقص من محبتي لها، بقيت والدتي لأكثر من عشر سنوات على هذه الحال (خلال هذه الفترة تقدم لي بعض الشباب لكن تم الرفض من قبل والدي وإخوتي دون الرجوع إليّ”. تكمل حديثها وتقول: “ازداد وضع والدتي الصحي سوءاً إلى أن توفيت وكم كان صعباً رحيلها، حزنت حزناً شديداً لفراقها وكأن شيئاً من روحي ذهب معها، لم يكفني حزني على والدتي إلا أنني بدأت أرى نظرات الشفقة بعيون الجميع وأسمع كلمات مواسية في ظاهرها موخزة بمعناها، كقول (بقيت وحيدة لا زوج ولا ولد)، لو تزوجت كان أولادها بطولها الآن. أو كقول الغالبية (الله يبعث لك يلي يستر عليك)، فأحس بأني عار هذا الزمان أو عورة يجب سترها، لم اكترث كثيراً فحزني كان أكبر من هذا كله ولكن مع الأيام أصبح كل من يراني يدعو لي بالستر، وإذا أحدهم أغرق باللطف دعا لي بالزواج من أرمل شاب. هذا عدا عن الكلام الذي يصدر من الجميع كعبارات (آخرتها لختيار) كم كان وقع هذه الكلمات مؤلماً وكم كان صعباً على فتاة مثلي تصحو لتجد نفسها أمام كل هذه التعليقات الساخرة والمستفزة أو بعض التصرفات المنفرّة، كتقدم المسنّ لي ليجدد أيام شبابه، أو أواجه بتصرفات وبنظرات الكهول أو بعض الكلمات الجارحة والتي تشعرني كأنني سهلة المنال ولقمة سائغة ولكن هذا كله لا يوازي شيئاً عندما قامت بعض الصديقات المقربات من قطع علاقتهن معي خوفاً على أزوجهن مني!”.
تقول ربا: “كم كانت تحمل هذه التصرفات من ألم وحزن وكم حاولت هذه الكلمات انتقاصي وتحجيمي وجعلي في دائرة مغلقة ضمن كلمة عانس، هذه الكلمة التي وجدت لانتقاص إنسانية كل فتاة تأخرت في الزواج، وكأن الزواج هو مكمّل لإنسانيتها! الزواج لا يكمل إنسانيتي وأنا لست صوركم المنعكسة في هذه العقول الصغيرة، أنا التي رفضت الزواج لأهداف أسمى وأرقى من طريقة التفكير هذه، وهدفي هو أسمى من كل أهدافكم بزواج لا يصل لمرحلة رضا الله ووالدتي”.
تقول: “بالرغم من كل التجريح وكل الكلمات المسمومة والأفكار المريضة ومعاناتي معها، إلا أنني راضية عن نفسي فأنا اليوم لا أرغب بزواج يقوم على خدمة رجل مسنٍّ استجدي رضاه، أو قائم على مصلحة ما كأن أجد رضا زوجي بتربية أبنائه، قررت أن أعيش لنفسي وأن أتمَّ مسيرتي من خلال عملي الذي أحب بزراعة الورود وأكمل مسيرتي بالاهتمام بوالدي، فلتخبئ النساء أزواجهن عني، وليتحدث الجميع ما يريد، أنا اليوم ملكة نفسي”.
فضلت أن أبقى عزباء من أن تتعثر حياتي بزواج غير ناجح!
أما ندى التي تقترب من الخمسين فتقول: “قررت الخروج من خجلي وصمتي”، فتروي قصتها بكل شفافية. تقول: “أنا أعمل كمدرسة لمادة التربية وأحب اختصاصي، لم أحظى بقدر وافر من الجمال”، “اعيش مع والدتي في بيت العائلة طبعاً، ويجب أن يبقى بيتاً مفتوحاً أمام الجميع بحكم كونه بيت العائلة ووجود والدتي، يبدو بيتنا وكأنه روضة أطفال يجتمع فيه أبناء أخوتي وأخواتي، فأنا بنظرهم تلك المتفرغة التي لا مسؤوليات لديها، بل البعض يرى بأنه من واجبي رعاية أبنائهم، ولكن إذا حصل وانزعجت من أحدهم أو طلبت منهم العودة إلى منازلهم، أقابل من أهاليهم بالكلام السليط الجارح، والذي ينبهني بأنني ناقصة لأنني لا أطفال لدي، وغير متزوجة، وأنني متفرغة. وأقابل باللوم من والدتي، هذا عدا عن الضحكات الصفراء التي توجه لي مع بعض الكلمات السامّة كان يقال لي: (خايفة يزعجوا جوزك وأولادك). هذا على مستو عائلتي المقربة، أما على الصعيد الأكبر أو العائلة الأكبر، فهنا يبدأ الهمز واللمز والتغامز بين النساء عليّ، كأن انعت بالغبية التي لم تعرف كيف تحظى بزوج أو بأنني معقدة أو “بايرة” لم يتقدم لها أحد. ومن هذه الأحاديث التي تتشدق بها النساء قبل الرجال وهذه الكلمات المخزية والجارحة والتي فيها الكثير من اللؤم والاضطهاد والانتقاص وتنم عن غباء وقصر نظر من يتحدث بها، والتي تظهر بأن الزواج هو أسمى هدف تحققه الفتاة والمرأة في حياتها.
أما في الشارع، وفي المناسبات الاجتماعية، وخاصة التي يتوجب عليّ مرافقة والدتي بها، فحجم الكلمات يبدو أكبر وحدّته أقوى ووقعها أصعب. فالجميع يدعو الله لستري، والجميع كلمته موحدة “أجيالها لديهم أحفاد” أو “راحت عليها” أو هرمت وغيرها وغيرها من الكلمات التي تمزق روحي قبل سمعي، وتهز انسانيتي، فهل أنا ناقصة بدون زوج؟ لا فأنا من رفضت الزواج لأنني لم أجد الزوج المناسب ممن تقدموا لخطبتي، وأنا التي لا تريد زواجاً فقط كي أبعد عن نفسي لقب عانس”. تقول: “آثرت العزوف عن الزوج، وفضلت أن أبقى عزباء من أن تتعثر حياتي بزواج غير ناجح”.
تتابع ندى حديثها: “تشغل هذه الكلمات تفكيري فأحزن وأنطوي على نفسي، وأعيش الألم خاصة عند سماعي للكلام الجارح، ولكنني أعود وانتفض على نفسي واحترم اختياري، وأخرج من هذا كله من خلال كتابة خاطرة، وسماع الموسيقى. وأعود لنفسي بهدوء وحتى أتقبل أحياناً بكل حبّ ذاك الاستغلال المادي من محيطي العائلي وهم المدركون لعواطفي تجاههم وتجاه أطفالهم. الجميع تعود أنّي أعطي بسخاء ليس لأنه لا التزامات لدي بل لأنني كنت دائماً داعمة للجميع”.
“مازلت معلمة واستمتع بحياتي هكذا، فأنا أستطيع أن أسعد صغار العائلة ووالدتي بمشوار صغير بسيارتي الخاصة وأستطيع أن أجمع صديقاتي عندي أو في أي مكان عام”.
وفي النهاية
إن توصيف “عانس” هو صنيعة المجتمع، فلا ذنب للفتاة في خيارات الحياة، وإن استعمالها بطريقة التجريح للنساء، ماهو إلا دليل على قصر النظر، وتدني التفكير تجاه النساء. فالمرأة التي اعتادت العطاء والتضحية بدون مقابل سواء كانت أماً أو أختاً أو ابنة، متزوجة أم عزباء، لا يمكن أن نقرر مكانتها الاجتماعية بناء على الزواج فقط، وحياتها لا تنتهي بعدم الزواج. ومن المؤسف أن هذا التحديد تتبناه كثير من النساء أنفسهن، ولهذا يجب على المرأة مساعدة نفسها من أجل نفسها، فهي قد لا تكون قادرة على تغيير النظرة الاجتماعية بوقت قصير، لكنها بالتأكيد تستطيع أن تغير بنظرتها تجاه نفسها ومكانتها وتثبت ذاتها من خلال عملها، فكثير من النساء سواء كن عازبات أم متزوجات استطعن تغيير النظرة الاجتماعية لدورهن ومكانتهن من خلال عملهن على ذاتهن ومجتمعهن وهو ما سيغير في مصير الكثيرات غيرهن خاصة من ناحية العادات والتقاليد.