خولة سمعان
لماذا يتعين على الفتيات أن يخشين من السير بمفردهن في شوارع بلادهن؟ لماذا يخفن إن كان لا بدَّ لهن من المرور في أزقة ضيقة؟ لماذا يخشين على أنفسهن من أبناء بلادهن غالباً؟ وربما أقاربهن؟ ولماذا بلغت ظاهرة التحرش الجنسي هذا الحد من البشاعة المعلنة، وهي تزداد في معظم البلاد العربية التي ما فتئت من خلال رجال دينها أن تربط بين التدين وبين الأخلاق العامة للمجتمع، ومن ضمنها رفض التحرش.
فهل ظاهرة التحرش بالنساء تشكل حالة من أحوال المجتمعات المعاصرة، أم أنها بحكم وجودها منذ القدم (وإن كان بحالات متفاوتة، تشير في الأغلب إلى انعدام التوازن يعكس حالة من انعدام التوازن الأخلاقي على المستوى الفردي والاجتماعي سوية خاصة في حالات الحرب، كونها تستفحل مع ازدياد الصراع والفتك واستغلال البشر بعضهم لبعض، وترتبط بعوامل عدة من أهمها: انفلات الضوابط الأخلاقية، وارتفاع منسوب القهر والكبت بشكل عام، وانعدام العقوبات الرادعة أو تجاهل القوانين لهذه الأفعال، وتدني موقع المرأة في المجتمع الذي غالباً ما يعمل على معاقبتها هي – رغم أنها الضحية – بدلاً من معاقبة الجاني / المتحرش!
التحرش الجنسي هو: أن يقوم شخص أو أشخاص (رجالاً أو نساءً) بارتكاب أفعال مباشرة أو غير مباشرة، كتوجيه كلمات أو حركات ذات فحوى جنسية أو النظر المتفحص للجسد أو التعبير بالوجه كالغمز والإيماء والبسبسة والتصفير أو التعليق والملاحقة (التلطيش) والتتبع، وصولاً إلى الاعتداء السافر بالملامسة الجسدية والاغتصاب وارتكاب أعمال العنف تجاه شخص آخر (عادة ما يكون الشخص الآخر من النساء) من شأنها إهانة كرامتهن أو انتهاك جسدهن، مما يجعلهن يشعرن بعدم الارتياح أو التهديد أو عدم الأمان أو الترويع أو الإهانة أو الإساءة أو الترهيب. وقد يأتي التحرش عبر الانترنت أو الهاتف، عن طريق إرسال الرسائل أو الفيديو أو الابتزاز والمواعدة.
يعتبر التحرش الجنسي جريمة، ويجب أن يعاقب عليها القانون، غير أن المتحرَش بها غالباً (خاصة في بلداننا) لا تعرف ذلك. وهذا ما سنتكلم عنه.
فغالباً ما يقع التحرش على الفتيات القاصرات، ولكن لا يتوقف عليهن فهو يطال البالغات من النساء بمختلف الأعمار، وقد يكون مفاجئاً إذا قلنا أنه يطال فئات مجتمعية أعلى عمراً بكثير. وهو يحمّل المتحرَش بها وزر إساءتين كريهتين: تتمثل الأولى بامتهان كرامتها جراء ما حدث، والثانية: الخوف من المجتمع الذي يلومها ويشير إليها كما لو أنها هي من ارتكبت ذلك الفعل الشنيع! لذا نراها تبتلع آلامها بصمت وتتكتم على ما حدث لها، فيطمع (الجاني) المتحرش بها ويزداد توغلاً وعنفاً في ملاحقتها.
إن تعزيز مكانة المرأة في المجتمع يمنحها القوة في مواجهة أي إساءة موجهة إليها، كصدّها والتحدث والتبليغ عنها، وبالعكس يؤدي تدني موقع المرأة في المجتمع إلى ضعفها هي وخوفها رغم كل ما يحيق بها من ظلم وجور.
وما يثير التساؤل أن انتشار ظاهرة التحرش وازديادها تتزامن مع شيوع حالة من التدين قد تصل إلى حد التشدد اللاعقلاني. فتظهر تبريرات لا منطقية لظاهرة التحرش، تبدو بعيدة تماماً عن أي تفكير عقلاني أو منطقي من مثل: أن النساء مسؤولات عن أي التحرش الذي يرتكبه الرجال لأنهن يثرن غرائزهم الجنسية والشهوانية بملابسهن السافرة.
مثل هذا الخطاب ينتشر كثيراً على ألسنة عامة الناس ويتبناه ويروج له رجال الدين، في عصر أصبح خروج المرأة إلى العمل ضرورة وأمراً واقعاً لا مناص منه، وأضحت مسألة المساواة والعدالة بين الجنسين أمراً محتماً، ما يقودنا إلى الحديث عن مسؤولية السلطات القانونية التي تتغافل عن سن القوانين الحاسمة والرادعة والتي من شأنها حماية المرأة وتعزيز مكانتها وتمكينها في الدولة والمجتمع.
من ناحية أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً في الحدّ من هذه الظاهرة كونها لا تقوم بتوعية المرأة بحقوقها، فقد قلنا أن المرأة تخشى أن تبوح بمعاناتها وبما ارتُكب في حقها لأنها تفكر كما توحي لها كل القوى الفاعلة في مجتمعها أنها هي السبب في ارتكاب مثل هذه الانتهاكات، بينما يتوجب على وسائل الإعلام أن تلعب دورها في إيضاح وفضح هذه الأفعال، ودور السلطات القانونية في إيقاف المجرم عند حده ومعاقبته كما ينص القانون، وكذلك من واجبها إيصال كل ما يتعلق بحقوق المرأة ودعمها عن طريق تبني موقفها بشكل إيجابي والدفاع عن حقها في المطالبة بصون جسدها وحقها بالعمل والخروج والشعور بالأمان عند ممارسة حياتها الطبيعية.
إن الخطاب الذي يصدر عن أشخاص يصدرون أنفسهم كمنابر دينية إعلامياً ومجتمعياً وسلطوياً، فيجعلون من أنفسهم واعظين (وواعظات)، مستخدمين عبارات تداعب وجدان العامة مثل: (ستر المرأة) و (عورة المرأة) (والفتنة التي تتأتى منها) ولذا (يجب أن تبقى في بيتها تجنباً لإثارة الرجال).. إن هو خطاب لا يخلو من تسلط وكراهية للمرأة، ويحيلنا للإشارة إلى خلل مؤكد في التربية والتعليم وفي الفكر السائد، والأحرى به أن يؤسس للحرية والعدالة ويؤكد على كرامة الإنسان من خلال إيقاظ القيم الأخلاقية السليمة، ويدعو إلى نبذ العنف والأذى والابتعاد عن كل ما يمتهن كرامة الإنسان.
لذا، من الطبيعي أن نربط بين التخلف الاجتماعي وبين ظاهرة التحرش أو إهانة المرأة بشكل عام، حيث يطفو القهر كعلاقة سيادية بين الجميع في أوطاننا العربية التي تمارس الاستغلال والتجويع المتعمد والعسف في تسلسل ممنهج.
إن هذا الجوع إلى الجسد لا يختلف كثيراً عن الجوع العام، الجوع إلى الحرية والكرامة والحياة الإنسانية.
هذا لا يعني أننا نخص مجتمعاتنا بظاهرة التحرش وننفيها عن المجتمعات الغربية، إنما نقول أنه لم يعد من المخيف بالنسبة للمرأة الغربية أن تتحدث عن تجاربها الشخصية – مهما كانت – وهي تستطيع الإشارة إلى من أوقع بها الحيف حتى لو كانت مرتبته في أعلى المستويات، وقد شهدنا حملة 2017 التي جاءت إثر اتهام المنتج الأميركي الشهير (هارفي واينستين) بالتحرش والاعتداء الجنسي على عدد من النساء، ونذكر أن تلك الحملة لم تتوقف عند فضح هذا السلوك الخاطئ وإدانته، بل دعت إلى زيادة تمكين وتعاضد النساء، كما أدى هاشتاغ (انتهى الوقت) time up # الذي انتشر في أعقاب حملة (أنا أيضاً) إلى تأصيل فكرة محاربة التحرش بطرق قانونية.
وعلينا أن لا ننس أن الأسرة ومن ثم المجتمع يساهمان كثيراً في تعميق هذا الظلم الموجه للمرأة في المجتمعات العربية، حيث يٌعفى الرجل / الذكر منذ طفولته من كافة أنواع الردع والتوجيه إذا ما نمّت عنه بعض الأفعال التي تسيء للفتاة / الأنثى: أخته، أمه، زوجته.. وهو في معظم الحالات يلقى التشجيع على أفعاله تلك باسم (الرجولة) بسبب تشوه مفهوم الرجولة في قاموسنا الاجتماعي، فيكون الذكر رجلاً بمقدار ما يتمكن من سحق المرأة التي تقع ضمن نطاق سلطته، ولا يوجد أي قاموس يقوم بتصحيح مفهوم الرجولة هذا، ولهذا يبدأ عهده مع رجولته بقمع أخواته وزوجته ومن ثم يتطلع إلى الاعتداء على الفتيات اللاتي يمكن أن يقعن في دائرة عسفه، هذا والفتاة مطالبة بالمحافظة على عذريتها، وإلا فإن القتل مصيرها وسفك دمائها لغسل الشرف، أي أنه من المعلوم – ومن المفترض أن يعلمه الرجل والمرأة على حد سواء – أن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أمر محرم، مما يعني أن الرجل لا يرتكب فظاعة التحرش الجنسي فقط، إنما هو قاتل لتسببه في مقتل فتاة قام بالاعتداء عليها. فكانت ضحية مرتين.
كما علينا أن نركز على ظاهرة تعتبر العار على الإنسانية وهي حين يستغل الرجال احتياجات النساء الأساسية في مناطق الصراع المسلح والحروب، حيث المأساة التي تعيشها المرأة أكبر من أن تُحتمل، عندما تشتد الحاجة ويستبد القوي فيتحكم في الأضعف، وهذا ما كان مراراً وتكراراً في الحالة السورية، كما في مناطق الصراع الأخرى.
(كانوا يحتجزون المساعدات التي يجري توزيعها ومن ثم يستغلون النساء جسدياً، الضحايا كُنّ نساءً من مختلف الأعمار، بعضهن تعرضن للاعتداء بشكل مباشر، وبعضهن في حالة يرثى لها، أتذكر امرأة كانت تبكي في الغرفة، وكم كانت في وضع يرثى له مما عانته، ما خلّف أثراً عميقاً وجلياً.
تحتاج النساء والفتيات لمن يحميهن، وهن في حاجة لتلقي الغذاء والصابون وأشياء أخرى أساسية للعيش، وآخر ما تحتاجه تلك النساء أن يأتي رجال من المفترض أنهم أهل للثقة وتقديم المساعدة، وإذا بهم يطالبون بممارسة الجنس مقابل عدم الحرمان من المساعدة، كان الأمر متفشياً حتى أن التوجه إلى مركز المساعدات بات وصمه، فقد أصبح التوجه إلى تلك المراكز مقروناً بشكل أو بآخر بممارسة الجنس مقابل تلقي المعونة.
ما حدث في جنوب سوريا كان مثلاً جلياً على الطريقة التي جرى بها تجاهل تعرض النساء والفتيات للاستغلال الجنسي، إنه أمر معروف وقد جرى تجاهله لسبع سنوات.
لقد بلغتنا تلك الأخبار، أو على الأقل عرفت أنا عنها منذ العام 2015. نحن الآن في الـ 2018. فكم من النساء والفتيات عانين خلال تلك المدة بسبب الإهمال التام للنساء في جنوب سوريا، بل وفي كل وضع مشابه.
لقد آثرت الأمم المتحدة والمنظومة القائمة التضحية بأجساد النساء، لقد قرر البعض غض الطرف عن مواصلة تعرض أجساد النساء للانتهاك والتعدي والاستغلال مقابل السماح بوصول المساعدات لعدد أكبر من البشر*.)
- تقرير لل بي بي سي عربي بتاريخ 27 شباط / فبراير 2018. بعنوان: سوريا: مساعدات مقابل الجنس.. والمقابلة للسيدة دانييل سبينسر التي عملت في مخيمات اللاجئين السوريين خلال الأعوام 2014 – 2015.