غالية الريش
يتوالى مسلسل الموت انتحاراً في لبنان على اختلاف مناطقه وبيئاته الاجتماعية، يأساً من الحياة أو جزعاً في مواجهة ظروفها الصعبة، إذ ضجت وسائل الإعلام بالأنباء عن إقدام بعض المواطنين على الإنتحار. سجلت الحالة الأولى في بلدة عرسال البقاعية. وتتالت بعدها حالات إنتحار شباب، ساعد الحراك الثوري اللبناني في تسليط الضوء والـ”فوكسة” عليها باهتمام شعبي وإعلامي.
نزيه عون وداني أبو حيدر وناجي الفليطي…انضموا الى قافلة شهداء الحرمان والتهميش، والرجاء المنخور، كما شهداء الثورة اللبنانية على مظالم النظام الاقتصادي والسياسي اللبناني الفاسد. حسين العطار حسين شلهوب وسناء الجندي وعلاء أبو الفخر وأنطونيو طنوس. رئيس بلدية عرسال تعليقاً على حادثة انتحار ناجي الفليطي أنه شهيد من شهداء الانتفاضة للدفاع عن الكرامة ولقمة العيش.. ناجي الفليطي شهيد المنقوشة.
حالات الانتحار المتعاقبة تلك في سياق الثورة اللبنانية، التي انطلقت شرارتها في السابع عشر من تشرين الأول، أثارت القلق في العديد من الأوساط الاجتماعية التقليدية والثورية على حد سواء، من مقدمات واعتبارات عقيدية ودينية متعارضة، لكنها تحتفل بثقافة الحياة والتمسك بأهدابها مهما صعبت مسارات الحياة.
ثمة شبح إرهاب ورهاب من نوع خاص يخيم على لبنان. إرهاب الجوع والفاقة وعدم القدرة على تأمين أدنى مستلزمات العيش الكريم من سكن وغذاء وطبابة وتعليم. يدفع برجال ونساء نحو الموت انتحاراً ترفعاً من مصيرِ حيّ أسود، ضربٌ من ثورة على الذات والحياة استنكاراً على كل ما جرى ويجري من تدهور شروط الحياة التي قادتها طغمة مالية فاسدة.
دون الإقدام على بحث الأسباب الفردية – النفسية على أهميتها يبقى السؤال في تفسير دوافع المنتحرين، سواءً أفضت محاولاتهم إلى الموت، أو على غرار ماجرى مع متظاهر ساحة الصلح، أقدم على حرق نفسه وسط الحشود التي كانت متواجدة في الساحة بسكب مادة البنزين على جسده، حيث نجح المتظاهرون في مساعدته وإخماد الحريق. نقول يبقى السؤال في تفسير الدوافع، في أتون لحظة ثورية كالتي نشهدها منذ 17ت1 تعصف بالآمال الكبيرة التي تجدر بأي ثورة بكل مجاميعها البشرية أن تمنع كل ميل نحو الإماتة أو الانتحار الفردي،وعندما يصبح إطلاق النار على الذات أرحم من إذلالها، يبدو التفسير المنطقي للحالات الفردية اليوم- والتي تقترب لتصير (ظاهرة)- مقترناً في إحساسها باليأس من الظروف العامة بقدر يأسها من (قدرة) الثورة الجارية على تحقيق المطالب التي يضعها الثوريون اليوم في ساحات الانتفاض، والتي يصطدم زخمها مع تعنت الطبقة السياسية وسيول أزماتها الاقتصادية والمالية في تجاهل مطالب المحتجين بالمراوغة وضبط إيقاع الثورة بالإيقاع القديم السابق للثورة – وكأن شيئاً لم يكن- فوق اليأس من الأوضاع التي شكلتها تلك الطبقة اللاوطنية والنهابة.
التعايش مع اليأس:
مع كل بؤس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي عاناها اللبنانيون أثناء وبعد الحرب الأهلية، كان ثمة مابعد كل منعطف سياسي بارقة أمل ما في التغيير، حقيقة أو وهما، ومع تراكم الخيبات والانهيارات التي رافقت سير حكم الطغم المالية والمافيوزية، وغياب الروافع النضالية السياسية والمدنية المستقلة، تشكل يأس مقيم من تغير الأحوال جدياً أو جذرياً، ولكن مع وجود هوامش في تأمين متطلبات الحد الأدنى من المعاش والعيش الكريم، حصل تساكن طويل مع الأوضاع الصعبة، واللامبالاة بنهج الطبقة الحاكمة اللصوصي، والرهان الغيبي على قدرتها في إنجاز الاصلاحات المطلوبة.
خطأ الرواية:
ناجي وداني وعون لم ينتحروا. هنا خطأ الرواية. هؤلاء قتلوا، لم يكونوا الأولون ولن يكونوا الأخيرين. الإدقاع هو القاسم المشترك بين هؤلاء الضحايا الذين يتشاركون مع غيرهم من الأحياء الباقين المسكونين بآمال ورهانات عظيمة على ثورتهم الشعبية. لايفسر الفقر وحده الدافع للانتحار.
مامن تفسير نظري- تاريخي سابق يمكن الركون إليه لفهم حالات الإنتحار الواردة أعلاه في سياق زخم ثوري شعبي كالذي تشهده لبنان. في مقاربة دوافع الانتحار غالباً ما يتم تناول كل حالة على حدة، على تنوع أسبابها ودوافعها الفردية، دون الوقوع في التعميم. ما من مقاربة شاملة بالمقياس السوسيولوجي يمكن الركون إليها لفهم مغزى توقيت حالات الإنتحار المشار إليها، وما من مدخل سليم لفهم تلك الظاهرة الخطيرة، إلا في دمج تلك التفسيرات الفردية لهذه الحالات/ الظاهرة في أطرها التاريخية والإجتماعية والسياسية والنفسية العامة.
سبق للعالم السوسيولوجي الفرنسي إيميل دوركهايم وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث أن أشار إلى ضرب من ضروب الانتحار “الأنومي” والذي يعكس صورة عن المجتمع الحديث على ضوء اضطراب الروابط الاجتماعية التي غالباً مايحدثها حدث جلل كالأزمات الاقتصادية المفاجئة أو الكوارث والحروب فضلاً عن الأزمات الأسرية. تلك العوامل التي تؤدي إلى تدهور المعايير التي يقرّها المجتمع في تسيير حياة الأفراد اليومية وبالتالي تتفكك الروابط الاجتماعية التي تحفظ للفرد حياته وشعوره بالأمن.
في لبنان تداخل السياق الثوري مع الأزمة المالية- الاقتصادية الحادة والمستمرة، الذي كان سبباً رئيساً في اندلاع الثورة، هذه الأزمة تضغط بثقلها على مصائر الناس وتنزع منهم كرامتهم المعنوية أمام أبنائهم وعائلتهم. من يراقب محطات التلفزة وشكاوى الشباب والنساء، يلحظ مدى المرارة في حلوقهم، يظهرون معاناتهم، في فقدهم لوظائفهم وأعمالهم، وانكشافهم المعنوي – كما المادي- أمام أحبتهم وأهلهم وأصدقائهم، وقد تغيرت حياتهم رأساً على قلب، وقد صاروا عاطلين عن العمل اليوم بعد مضي 20-30 سنة عمل.
انسداد الأفق ودور الميديا:
يسود المزاج السياسي والإعلامي اللبناني موجة إحباط وسخط ناجمَيّن عن الإنحدار الذي وصل إليه الوضع الاقتصادي والسياسي، هذا المزاج المتولد من بيئات متعددة، لايشمل البيئة الثورية والشبابية التي تملأ الساحات اليوم وحسب بل يتعداها إلى بيئات تتسم بالسلبية تجاه الانتفاضة، بيئة إنتظارية تنتظر قطاف مايمكن أن يثمر عنه الحراك على الرغم من تطابق ظروفها مع ظروف المحتجين، وفي ظل غياب أي حلول ناجزة سوى سراب الوعود الخلبية، يسود مزاج لشيطنة الحلول، إلى درجة العدمية في وسائل الإعلام، هذه الشيطنة القائمة على فقدان الثقة من الطبقة السياسية، وعدم بروز أي موقف جدي ينزع نحو الإصلاح، وهي ما تعزز أجواء التشاؤم والإحباط الفردي لتتلاقى في منتصف الطريق مع بنية فردية تضع الإنتحار إحتمالاً بين مجموعة احتمالات لايحسمها إلا موقف تتساوى فيه الحياة مع الموت. لذلك أرى من واجب الإعلام اليوم التحلي بالموضوعية، والصبر والميل إلى عدم التهويل دون المضي في رسم مسارات وهمية وخادعة.
هو الانتحار كالحرب.. تحتقن في الرؤوس قبل أن نرى أهوالها في بيوت الفقراء والمعدمين اليوم في لبنان كما في ميدان المعارك.
الحكي بيطول العمر:
مع ذلك هناك محاولات مخلصة وجادة من خلال جمعية تطوعية (امبريس) للصحة النفسية والدعم النفسي، من خلال خط اتصال ساخن على الرقم1564 بعنوان “الحكي بيطول العمر” غرضها كسر جدار الصمت النفسي عن محاولات الانتحار، ومحاولة تفاديه وقابلية تجاوزه وعلاج أفراده. بالتأكيد إنها محاولات نبيلة، وهي تحاول استعادة اليائس إلى التساكن مع ظروفه الحياتية الصعبة.
ليس هناك أنبل من الثورة على تلك الظروف والتمسك من خلالها برمق العيش والحياة الأفضل. وهذا ما تؤسس له ثورة اللبنانيين واللبنانيات اليوم، مهما غلت التضحيات.