Search
Close this search box.

المرأة والثورة في لبنان

المرأة والثورة في لبنان

كندا سالم

جميلة هي الثورات ولكن الأجمل هو الوجود النسائي القوي الذي لا يمكن تجاهله أو إنكاره أبداً. لقد تصدرت النساء الغاضبات، المتمردات والمقهورات المشهد اللبناني، من خلال الحضور الطاغي ومن خلال قيادة التحركات وقيادة الهتافات.

ما يميز التظاهرات والشعارات في لبنان تلقائيتها، عفويتها، وتعريتها للواقع القاتم الذي أغرق البلد. بسبب هذه العفوية والوضوح لاحظنا انتشار الشتائم بشكل علني وصريح في الاحتجاجات اللبنانية. حيث جاءت التظاهرات في لبنان لتعلن عن استبدال الكلام المنمق والبراءة والأدب بالشتيمة الواضحة الصارخة. للمفاجأة، جاء انتشار الفيديوهات ذات الكلمات النابية، كمكسب للثورة يعبر عن صراحة الشعب مع نفسه، ومع السياسيين والعالم من غير تكلف ونفاق.

تعبّر الشتائم التي انتشرت عن وجهة نظر الكثير من اللبنانيين الذين يعتبرون أن النظام السياسي بات منحطاً لدرجة أنه لا يمكن نقاشه والبذاءة وحدها جديرة به. وقد اعتبر الكثيرون أن القذارة اللغوية وسمت خطاب سياسيي هذا العهد في خطبهم المليئة بالقدح والذم والكراهية مما لم يترك مجالاً للشعب سوى رد القذارة إلى أصحابها، فليس هناك من جواب على الفجور الذي تمارسه السلطة إلا بالاحتقار والرمي بالألفاظ الفاحشة حيث يبدوا هذا مناسباً كرد وكاحتجاج وكانتفاضة سياسية.

فالقطيعة الحاصلة في لبنان بين المواطنين والسلطة هو ما جعل اللغة مستحيلة وحولها بدلاً من ذلك إلى صراخ وشتائم، فالبذاءة تطال الجميع، وعند الوصول إلى القاع لا بد من استخدام لغة القاع كسياسة وحيدة علها تكون ناجحة. حيث لم تأبه شعارات المظاهرات بخدش الحياء العام لأن العام لم يعد إلا ركاماً لنفسيات شعب مرهق بالفساد والقهر.

ولكن ما هو أهم من الشتيمة في محلها التي صاحبت المظاهرات، صورة المرأة التي تركل رجل الأمن أسفل بطنه، والتي تحولت إلى صورة رمزية للثورة حيث أنها مثلت ثأراً مكثفاً من الفجور الذكوري للسلطة وتماديها. كما أنها جسدت قوة المرأة وجرأتها في الدفاع عن نفسها وعن وطنها.

خاصة بعد انتشار السجال الأخير بين النائبة بولا يعقوبيان والوزير السابق غسان عطالله، حين أشار الوزير إلى أن يعقوبيان وصلت إلى المقعد النيابي بطرق غير أخلاقية، وإلى ما يتعلق بحياتها الشخصية كإهانة لها. وقد ردت عليه بما يليق به حين قالت: (الشرف بالراس مش بين الاجرين وهيدا اللي إنت ما بتعرفو). كما اختصرت يعقوبيان أزمة الخطاب العوني بعبارة “تيار الزنار ونازل”. لم تأت تسميتها هذه من فراغ حيث أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها لهجوم غير مهني يطال جسدها وشرفها، فتاريخ السياسة في إهانة النساء طويل.

فالحضور النسوي إذاً كان واضحاً بخطابه ليس فقط ضد النظام كنظام سياسي بل كمنظومة ذكورية عممت قيم عهد أثبت دائماً إهانته للمرأة.

قد تكون فيديوهات الشتائم من بيروت مقبولة لا بل مهضومة ومحبوبة لأنها تمثلنا كأناس طبيعيين، تقدم الأنا المختبئة فينا كما هي دون تجميل ودون اتزان وتهذيب. تقدم التلقائية والعفوية والوضوح، تقدم مجتمعاً أقصي في كثير من البلدان باسم السياسة والدين. والأهم، أنها تظهر المرأة غاضبة، تشتم السياسين علناً ليس في بيتها أو بين جاراتها وصديقاتها فحسب، بل أيضاً في الشارع وسط المحتجين والمتظاهرين.

لقد تحولت الشتيمة الموجهة لجبران باسيل في الاحتجاجات إلى ترند عالمي بعد أن ترجمتها مجلة التايم الأمريكية حرفياً، حيث ورد في الترجمة أن الشتيمة تشير إلى أمه لكنها في الواقع موجهة إليه.

تاريخياً شكلت اللغة مساحة خصبة تستخدم فيها المرأة وخصائصها الأنثوية في الإهانة والتحقير. تعبر الشتائم عن تشوه صورة الجنس عند الأفراد بوصفها علاقة فيها فاعل وفيها مفعول به، وبالتالي فالطرف الفاعل هو الأقوى والمسيطر بينما المفعول به هو المسيطر عليه والمتحكم به.

من وجهة نظر نسوية، هناك من اعتبر أن الشتائم مبنية على التمييز والعنصرية وهي تؤذي فئة معينة من المجتمع، واستخدام أعضاء المرأة في الشتائم هو محط إهانة لها ولرجال عائلتها. حيث تعتبر النسويات أن هذا تمييزاً ضد النساء لأن استخدام الأعضاء التناسلية للنساء في الشتم يأتي في سياق إخضاع النساء بينما يساوي الرجال أعضاءهم بمعاني القوة والتحكم والسطوة.

 وتعتبر هؤلاء أن لا مانع من استخدام الشتائم لو أنها تستهدف الجنسين على حد سواء، أما التمييز في استخدام الشتائم التي تحط من قدر المرأة فقط هو غير مقبول، ومن غير المقبول أيضاً اعتبار الأعضاء الأنثوية في الشتائم مهينة بينما الأعضاء الذكرية مصدر فخر وقوة. لأن العضو الأنثوي يعبر في المجتمع عن شرف بينما العضو الذكري لا وهذا ما علينا أن نغيره. إن العنف اللفظي القائم على شتم الأعضاء التناسلية ناتج عن ثقافة المجتمع القائمة على أن المرأة وأعضاءها التناسلية ملك للرجل وأن الشرف مرتبط بهذه الأعضاء. وبالتالي عندما نغير هذين المفهومين (الملكية والشرف) عندها فقط يصبح ربط الشتيمة بالمرأة وأعضائها لا معنى له. أي أن مسألة حصول النساء على حقوقهن الجنسية هي الأساس، فعندما تصبح المرأة هي من تتحكم بأعضائها وعندما تثبت أنها ليست ملكاً، عندها فقط تصبح الشتيمة مجردة من المعنى. أما الآن فهي لا تعتبر مجرد شتيمة فارغة من المعنى، هي عبارة شعبية عنصرية تمييزية بالتأكيد.

للشتيمة دور في التعبير عن النفس والغضب والتنفيس، والغضب هو شعور مهم، لكن لماذا نشرعن الحق الطبيعي في التعبير عن الغضب بأن يتجسد بشكل آخر من القمع والتعنيف؟ من خلال مواصلة ترسيخ فكرة أن العضو التناسلي الأنثوي وجسد المرأة وكل ما يتعلق به هو إهانة وعار؟

في المقابل هناك وجهة نظر نسوية أخرى اعتبرت أن الشتائم أثناء الاحتجاجات جاءت في سياق مختلف حيث أن جزءا كبيراً من الحراك تمثله نساء وجزء كبير من هؤلاء النساء هن نسويات لبنانيات. من وجهة نظر هؤلاء أن الشتيمة أثناء التظاهرات تجاوزت جسد المرأة وجسد الرجل معاً، مما أحدث نوعاً من التوازن، كما أنها جاءت بسياق لغوي عفوي (فشة خلق)، وكسرت الصورة النمطية للفتاة المهذبة التي لا تستخدم الشتائم.

لقد تمَّ نسيان المعنى الحرفي للعبارات في المظاهرات ووقف عليها سماعياً فقط دون تفسيرها، فالمجتمع اللبناني منفتح نوعاً ما أكثر من المجتمعات العربية الأخرى، وكلما أصبح المجتمع متسامحاً جنسياً أكثر ويعيش حياة أقرب للمساواة بين الجنسين، كلما كان تأثير الشتائم قليل على القلب والعقل والضمير.

بالمقابل لم تسلم المتظاهرات اللبنانيات من التعليقات التي تقلل من قدر المرأة اللبنانية وتسفّه الحراك بشكل عام. حيث علق الكثيرون على المتظاهرات بكثير من الكلمات والأوصاف ذات الإيحاء الجنسي، والتحرش اللفظي والنكات العنصرية التي تعبر عن حالة ذكورية مريضة. حيث تبقى أزمة الأبوية والتسلط واضحة في المجتمعات الذكورية.

رغم الأخذ والرد، الجميل هو أنه لن توقف ثورة المرأة في لبنان بوستات وتغريدات التحرش الالكتروني. فتاريخ اللبنانيات بالنضال أكبر من الرد على التعليقات. وهذا بالتأكيد نتاج الفعل التراكمي للنضال النسوي اللبناني على مر السنين.

في النهاية يحضرني قول سيمون دي بوفوار: “المرأة كما الرجل هي جسمها، بيد أن جسمها شيء آخر غيرها” أي أن جسد المرأة سيبقى موضوعاً للشتيمة والنكات والانتقاد.

خاص – شبكة المرأة السورية

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »