منتهى شريف
الباحة بدأت تعج بالضيوف الأنيقين, أحذيتهم الملمّعة تدوس بحذرٍ على البلاط المتهالك تحت الأنوار الشحيحة, والأعلام راحت تتمايل فوق الرؤوس المثقلة بالهموم.
لقد تمَّ توزيع المهام على الجميع, فالمعلمات يَقفنَ عند مدخل المدرسة ليرحبن بالضيوف وبعض التلاميذ عند البوابة يحملون الأعلام ويهتفون بصيحات ترحيبية, وعاملو النظافة يحاولون جاهدين تغطية الحمامات المواجهة للحفل بقماش ساتر, حتى تكون الصورة خالية من أي منفرٍ، فلقد حان موعد الحفل المنتظر، هي ذكرى “حرب تشرين التحريرية”.
كانت مهمة الحفل تعريف الأطفال بتلك الذكرى, وإعادتها لذاكرة الكبار الذين نسوها في زحمة الحروب الحالية, ورغم أن كلمة حرب لم تكن بحاجة لشرح أو تفسير لأنها ومنذ ثماني سنوات باتت أكثر المفردات تداولاً بين الناس, فقد تفتحت أعين الأطفال عليها, وعاشوا تفاصيلها أكثر من الكبار في أحيان كثيرة, لذلك وما أن لفظت معلمة الرسم موضوع المعرض المطلوب إعداده ألا وهي _الحرب_ ,حتى سارع الاطفال للغرق في تفاصيلها, وصبوا جام غضبهم على الورق, وتفننوا برسم لوحات تمثل مشاهدها القاسية, وفي زاوية الأعمال اليدوية المجسمة تفاجأ الجميع ببراعتهم وإتقانهم صنع مسدسات وبنادق وخناجر بأشكال عدة, أثارت حماس الصغار، فصنعوا الكثير منها وكانوا يتابعون لعبهم بها أغلب وقتهم في الباحة والشارع أيضاً, وكان أثر ذلك واضحا للجميع حيث بدأ ينعكس على تصرفاتهم وتعاملهم العنيف مع كل شيء وتنمرهم على بعضهم, وردود أفعالهم وكأن مارد خوفهم خرج من القمقم فباتت الباحة حلبة للقتال, والصفوف امتلأت بالورق الممزق وبعبارات مليئة بالقسوة والعنف المفرط، وصولا للشارع وللمحلات المجاورة , وشكاوى أصحابها من مفردات وتصرفات الأطفال، وما زاد الطين بلة هو ردة فعل المعلمات والإدارة تجاه التلاميذ الذين لم يعد بالإمكان التهاون مع تصرفاتهم وكان لابد، وفق رأيهم، من استخدام كل وسائل التخويف والترهيب ليكفوا عن هذه التصرفات المسيئة لسمعة المدرسة.
لكن العمل للمعرض والحفل المنتظر كان يسير على قدم وساق, ولاشيء سيعيق تلك المهمة التي باتت قيد الانجاز.
انهت معلمات الرسم تعليق اللوحات على الحيطان, وفرشت الأسلحة الكرتونية المتنوعة على الطاولات, وكأن المعركة على وشك البدء.
رأيتها من بعيد، سارة ابنة السبع سنوات, تقف محتارة وهي تحمل بيدها لوحتها الصغيرة.
اقتربت منها, وسألتها عن سبب حزنها فأخبرتني أن معلمة الرسم رفضت تعليق لوحتها, وقالت باكية: “… قالت لي أنه لازم استخدم ألوان الحرب!”
“وماهي ألوان الحرب؟”، سألتها مستفسرة، فأجابت: “الأحمر يعني لون الدم, أيضاً البني والأسود وهيك”, وأكملت متنهدة: “بس أنا مابحب هالألوان”.
ضممت سارة وأكدت لها إعجابي بلوحتها وألونها الزاهية المختلفة, فعادت الابتسامة لوجهها. وسرعان ما قدمت اللوحة هدية لي.
أسرعت لمعلمة الرسم لأقنعها أن تنتبه لما يحدث للأطفال، طلبت منها راجية أن تتوقف عن إيقاظ المخاوف لديهم, وسألتها: ألم يكن من الأجدى أن نطلب منهم أن يرسموا عن السلام لنحصل عليه؟ لكنها رمقتني بنظرة ساخرة وراحت تكمل عملها.
وها هو المعرض بات جاهزاً بكامل أسلحته ودبابته المجسمة المصنوعة من المعجون وبرسومات غلبت فيه القسوة والموت على بياض الورق.
بدأ صوت معرٍّفة الحفل يتصاعد, فأيقظ نعاس التلاميذ الذين حُبسوا بأقصى زاوية في الباحة كي لا يزعجوا الضيوف بالضجيج, لكن أجسادهم أمالتها قسوة الشمس, وما لبثوا أن جلسوا القرفصاء غير آبهين لشيء.
صرخت المعلمة المختصة عليهم فعاودوا للوقوف, ثم نبهتهم بأصبعها إلى أن الحفل بدأ وأنهم سيرددون الشعار الآن، ويجب أن يكونوا جاهزين وعلى أتم استعداد وعليهم أن يصرخوا بأعلى صوتهم ليسعدوا الضيوف.
منذ تسع سنوات وأنا ألاحظ كيف يتغير هذا الشعار ويتحور ويعاد تدويره على لسان الأطفال بدون معلم؛ في البداية كان الأطفال يرددون “وحدة ، حرية، اشتراكية”، لكن لسبب ما، كانوا يقفزون عن الكلمة الوسطى وكأنها وصمة عارٍ، سيُحاسبون عليها, وفي السنوات الأربعة الأخيرة بدأت الكلمات تتداخل ببعضها فيرددها الأطفال على شكل “وح شرااااااااايية ، ثم بدأت تختلط أكثر لتخرج من فم الأطفال على شكل: “أهدافنا الشهيدة “، إلى أن وصلت العام الماضي إلى :”أهدافنا الشاااااااردة “.
كانت المعلمات يستمعن لردهم الغريب كل صباح دون تعليق, البعض يبتسم متجاهلاً, وبعضهن الآخر ينبه محذراً، لكن دون جدوى، لكن علامات الاستياء من الإدارة في الآونة الاخيرة كانت شبه واضحة وتعليماتهم كانت صارمة.
قبل الحفل بأسابيع ثابرت المعلمة المختصة على تدريبهم على ترديد الشعار على نحو صحيح وحذرتهن مراراً وتكراراً من ارتكاب أي خطأ هذه المرة، لكن ما ان علا صوتها الجهوري: “أهدافنا؟” حتى أجابها الأطفال صارخين: “أهدا.. فنا.. الشااااااااردة”
وماهي إلا لحظات حتى ساد الصمت, وهبت ريح صفراء جعلت الأنوار تنطفئ, فبدأ جمهور الضيوف ينسحبون بهدوء، تاركين للمعلمة المختصة مهمة تعليم الأطفال تسلسل تلك الكلمات الثلاثة، مستحضرة بيدها وعقلها كل أسلحة الحرب.
خاص “شبكة المرأة السورية”