الاختصاصية رولا إبراهيم
“الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون” – مونتيسيكو
كيف نبني جيلاً فاعلاً لا تبعثره دوافع الهجرة؟
للقانون وظيفة اجتماعية، والدستور هو خلاصة الاتفاق المجتمعي الذي وجد لتنظيم الضبط الاجتماعي وهندسة البناء الاجتماعي. لقد تغير مفهوم الدولة الحديثة من دولة حارسة لسلطانها إلى دولة راعية لشعبها، وأصبحت الدول تتباهى وتتنافس بمقدار ما تحققه من خدمات اجتماعية راقية لمواطنيها. من هنا سنتحدث عن ضرورة تطوير القوانين التي يمثلها الدستور. انطلاقاً من علم الاجتماع القانوني الذي يدرس العلاقة المتفاعلة والمتضامنة بين المجتمع والقانون؛ إذ لا يمكن فصل القانون عن المجتمع مطلقاً، ولا يمكن القول إن كل طرف من هذين الطرفين يمكن أن يعمل بمعزل عن الطرف الآخر، فالاهتمام بكليهما يحقق الفائدة من تطبيق القانون لنبني جيلاً فاعلاً “لا تبعثره دوافع الهجرة، ووطن لا تستبيحه عواصف العولمة“، كما جاء في نص الأسباب الموجبة في المذكرة الايضاحية لمقترح قانون حماية الطفل الذي قدم في 2006. هذا المشروع الطموح الذي لم يُكتب له النجاح.
يحتاج الطفل إلى رعاية ومساندة وحماية، لذلك لابدَّ للقوانين من أن تحفظ حقوقه الإنسانية، حيث من البديهي أن سلامة المجتمع تبدأ من سلامة أطفاله. وهنا أذكّر بالمادة (44) من الدستور السوري التي تعتبر الأسرة خلية المجتمع الأساسية: “إن الدولة تحمي الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم“. إن الموروث الخاص للعرف الاجتماعي المحافظ عليه بكل اخلاص من العادات والتقاليد، آمن لفترة طويلة بأن “العصا لمن عصى“، و”اللحم إلك والعضم إلنا“، وحين نسمع جملة “بدي ربيك” نفهم منها “بدي عاقبك”.
الأسرة والمدرسة كبيئة حافظة للعنف:
في دراسة ميدانية قُمت بها في محافظة حمص وريفها عن مصادر المعرفة للسلوك العنفي تجاه الطفل تحت سن السادسة، كانت أغلب استجابة الاهالي تجاه بعض المواقف أو السلوكات غير منسجمة مع المبادئ، كالسرقة والكذب تجابه بالعقاب الجسدي والعاطفي. أي كي يسلك الطفل سلوكاً أخلاقياً ويكون طفلاً ذا تربية جيدة -حسب المعيار العام للمجتمع- يلقى الكثير من العنف. لكن من الممكن أن يقود القانون المجتمع ويكون أكثر تطوراً منه، ربما يكون هناك إرادة لتنوير المجتمع، وإنفاذ القانون فهو الذي سيساعد جميع المؤسسات المعنية على فهم واحترام حقوق الطفل وقدسيته، إن صح التعبير.
لكن المشكلة ليست هنا فقط. فمن جملة “أدلى بصوته” أو صوّت في الانتخابات، يحمل الصوت ذاك المعنى بحرية التعبير والإعلان البسيط عن وجود الانسان، بينما يبدأ خنق حرية التعبير مع كلمة “ابلّع صوتك، اخرااس، ما بدي اسمع همسة.. صرعتنا“، التي نسمعها من البيت الى الروضة فالمدرسة. إذن هناك علاقة بين الديمقراطية أو السلوك الديمقراطي والتربية وحقوق الطفل. فالطفل الذي تحترم حقوقه في المنزل لن يقبل بأقل منها في المدرسة. نظام المدارس الذي ظلّ لفترة قريبة يعتمد الملابس والشعارات الموحدة ودرس الفتوة “المعنى الخفي للتنمر”، وأسلوب القمع والترهيب حتى بعد إلغاء الضرب في المدارس لا يزال هناك شائعاً، إضافة الى العنف المعنوي والعاطفي للتلميذ، (هناك أستاذ مدرسة انتقل منها إلى أخرى فقط لأن الأخيرة مازالت تبيح الضرب بالرغم من القوانين).
الكرامة والانتماء تبنى من الطفولة:
هناك علاقة طردية بين حقوق الطفل والمجتمع المدني الذي يحترم حقوق أفراده. حين ينمو شعور الطفل بكرامته وانتمائه إلى مجتمعه من خلال احترام انسانيته وليس قبيلته أو طائفته – كما يكفل له القانون “عدم التأثير عليه لا دينياً ولا سياسياً ” – وحين يفقه معنى الحقوق والواجبات، سيكون له موقف مختلف من الشرطي مثلاً، فرموز السلطة شركاء له في الوطن ليس مضطراً للخوف منهم لأن القانون ببساطة يحمي الجميع، وهذا ما لا يتناسب مع ثقافة المجتمع أو سياسته. كما يقول بو علي ياسين في كتابه “الثالوث المحرم” فالقمع له وظيفة في منظومة الاستبداد“. وأنا أضيف لقمع الطفل وظيفة في هذه المنظومة. إن آليات إنفاذ الدستور تختلف عن الدستور، المنظومات التي تعمل على تجاوز الدستور وتلغي استقلالية عمل المؤسسات الدستورية تخلق هوة كبيرة بين الدستور وتطبيقه. جميع المؤسسات المعنية بحقوق الطفل غير معنية بدستورية وظيفتها، حتى الأعراف الاجتماعية متروكة لتقوم بدورها خارج منطق الدستور والقوانين النافذة. وليس أقلها أمثلة عن دور الأيتام، والأحداث، وحتى المدارس من شكل بناءها وحتى أسلوب الضبط فيها وأدائها الوظيفي. قوة العرف الاجتماعي والمصالح الشخصية والمحسوبيات أكثر أثراً من دستورية الفعل المؤسساتي.
وهكذا يربى الطفل كي يكبر ليكون “مواطن صالح” يستطيع أن يعيش تحت ظل قانون الطوارئ.
سأنهي ما بدأته بطرفة واقعية حين سأل أحدهم طفلاً: شو رأيك نطلع مشوار، فجاوب الطفل بعد تفكير: عمو شي يعني شو رأيك؟ من المرجّح أن يواجه هذا الطفل إرباكاً حين يكبر ويسأله أحد ما أن يدلي برأيه.
لذلك أتوقع أن إقرار قانون حماية الطفل من العنف لن يكون بهذه السهولة للأسف.
خاص بشبكة المرأة السورية