الأخصائية: رولا إبراهيم
ربما كانت إسراء غريب نقطة تحول في التاريخ المؤلم لقضايا جرائم الشرف، لذلك سأنطلق من قصتها التي أصبحت قضية رأي عام لأحاول أن أفسّر ما حصل من تحليل السياق الثقافي من وجهة نظر سوسيولوجية، وذلك من خلال محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:
كيف تقبل المجتمعات والقوانين بذلك؟
كيف يتماشى الإنسان مع عصر التكنولوجيا والتطور العلمي، وفي نفس الوقت يحافظ على أفكار ومعتقدات غاية في القدم؟
ما هو دور العادات والتقاليد ووظيفتها في المجتمع؟
فما زلت أتذكر يوسف ابن 23 عام وهو يعاني من مشاكل نفسية لأنه شاهد أخته مع شاب، وكان يجب أن يقتلها لكنه لم يفعل ذلك لأنه يحبها، فوقع فريسة التفكير بأنه ليس برجل، وأنه جبان، وبأنه سقط من عيون عائلته ومجتمعه. وهذا ما أتى به إلى العيادة النفسية.
فالقاتل في هذه الجرائم قد لا يكون ذو نزوع إجرامي، أو لديه خلل بيولوجي، أو نقص في القدرات العقلية، بل يقوم بفعل القتل استجابة لثقافة المجتمع المحيط وضغطه. حيث أن من دوافع ارتكاب “جريمة الشرف” هو السعي إلى إعطاء معنى اجتماعي لسلوكهم وانتمائهم، وهو تأكيد ذكوريتهم وأنهم على قدر المسؤولية الممنوحة لهم وهي الحرص على مكانة وشرف العائلة من خلال قتل المرأة.
فما هي آليات المجتمع التي تنتج ذلك؟
المجتمع شديد التماسك والتضامن -حسب دوركهايم- قد يدفع أفراده إلى الانتحار إذا لم يتمكنوا من الاستجابة لمثُلِه، يسميه “الانتحار الغيري” وهنا التخلص من الحياة تعبيراً عن ثقافة المجتمع، لذلك يشهر القاتل نفسه بمقولة شهيرة “اصبعي عابت وقطعتها” إذا اعتبرنا أن قتل المرأة هو فعل غَيريّ للمحافظة على تماسك الجماعة والحفاظ عل السيطرة، والأهم كي لا تتشجع الأخريات للفعل ذاته.
إن الروابط في المجتمع تُبنى على التضامن، وهو الاندماج في مجتمع ما أو بين مجموعة من الأشخاص. وفي المجتمعات البسيطة يقوم التضامن على أسس القرابة والقيم المشتركة، حيث عبّر عنه ابن خلدون بالعصبية بمعنى الضمير الاجتماعي والتماسك الاجتماعي، ولأنها نوع من القبلية نراها ضمن مجتمعات مغلقة، لذلك نرى هذه الظاهرة في مناطق جغرافية معينة منتشرة أكثر من مناطق أخرى.
يتكلم دوركهايم عن التضامن الاجتماعي الآلي، أي التشابه في حياة الناس، والتشابه بردود أفعالهم تجاه المواقف المشابهة، وحرص عموم المجتمع على عدم مخالفة هذا التشابه مما يخلق ضمير مشترك Conscience collective، حيث تتم ترجمته لدى الفرد الذي ينتمي الى هذا المجتمع بأن يصبح معنى حياته مستمدّاً من حرصه على عدم خروج المرأة التي تنتمي إليه عن هذا النمط من الحياة، ويؤدي بالرجل أو العائلة إلى ارتكاب تلك الجريمة في حقها.
ولتحقيق الضبط الاجتماعي في المجتمعات التي تربطها العصبية، يتم استخدام وسائل غير شرعية منها مراقبة الناس لبعضهم البعض، ومعرفة تفاصيل حياتهم وتصرفاتهم، وتبادل ما لديهم من أخبار الشائعات، وللأسف تم توظيف التكنولوجيا والإنترنت لصالح هذه العملية، وقد تصل قوى الضبط الاجتماعي إلى المعايرة، أو ذكر الناس بما لديهم من أخبار عنهم، مما يدفع الأشخاص إلى الإقدام على سلوكيات قتل النساء كردّ فعل على وسائل الضبط الاجتماعي “كما فعلت قريبة إسراء”.
إن المشكلة في حالة انتشار جرائم الشرف في مجتمعات التضامن الآلي في الفكرة التي تقوم عليها، حيث يصبح الرجل القريب هو المسؤول اجتماعياً عن إيقاع العقاب على المرأة “في حالة إسراء كان من ضمن المعنّفين زوج الأخت” ودون استخدام قواعد الضبط القانونية. إذ أن قوى الضبط الاجتماعي والقانوني تستجيب لهذا الوضع فتتعاطف معه. فإذا ما حللّنا التعليقات على قتل إسراء نجد بعضها يشير بأصابع الاتهام إلى قريبتها، وليس إلى من قام بالجرم والضرب من رجال العائلة، وكذلك إلى الكادر الطبي الذي سمح بخروجها من المشفى.
إن البناء الاجتماعي للمجتمع وثقافته يؤثران ويفسران سلوك أفراده، فثقافة أي مجتمع بما فيها العادات والتقاليد تتضمن غايات تخدم استمرار هذا المجتمع ونموه، تنقلها التنشئة والضبط الاجتماعي، وتعتبر هذه الآليات أساس لبقاء المجتمع حسب “ميلتون”.
فقد استقر شرف العائلة في ثقافتنا كهدف ثقافي، ووضعت المرأة في موضع المركز. إذ ثمة خلل في البنيان الثقافي ذاته لمجتمعنا.
القانون حاجة وضرورة اجتماعية، ومن المفروض أن ينظّم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، ومع ذلك نرى القانون متواطئ في جريمة الشرف مراعياً العادات والتقاليد تحت ذريعة فورة الغضب.
فالتغير الثقافي السريع الحادث في مجتمعاتنا تطَلَّب من الفتيات الخروج والاختلاط والتعامل مع الرجال أثناء التعليم، والعمل، والمشاركة في سوق العمل. وخطط تمكين المرأة الواسعة الانتشار، تتناقض تماماً مع موقف القانون من هذه الجرائم مما يجعله شريكاً غير مباشر فيها، وهو الذي لا يعتبرها جريمة كاملة.
هذا الموروث الثقافي لا يتم التعامل معه من خلال المؤسسات التعليمية، فالتغير الثقافي بطبعه بطيئاً لا يستطيع مواكبة التطور التكنولوجي السريع حيث تظلّ قيم المجتمع ومعاييره وتقاليده تتغير ببطء. وهنا تحدث الفجوة بين ثقافة المجتمع الموروثة والثقافة المواكبة لهذا التغير. حيث أنّ المؤسسات التربوية لا تقوم بدورها التنويري الكافي لمحاربة هذا المورث.
أما لماذا يكون كل هذا التواطؤ من قبل المجتمع والقبول بجريمة الشرف هذا ما سنحاول طرحه لاحقاً في مقالٍ منفصل.
ملاحظة: تعتبر هذه المقالة جزءاً أولاً من دراسة أوسع سيتم نشرها تباعاً لتناول الجوانب المختلفة المتعلقة بجرائم الشرف.
خاص بشبكة المرأة السورية