ياسمينا بنشي – تركيا
أبدت النساء السوريات خلال فترة الثورة السورية مقدرة عالية على التكيّف مع ظروف الحياة الشاقة خلال فترة النزوح والتنقل المستمر بحثاً عن الأمان، تحمّلن أقسى ظروف الحرب وحملن ما استطعن حمله من ثياب أو بعض الحاجيات الضرورية تصارعن الظروف المناخية القاسية التي ترافق كل منطقة خاصة في فصل الشتاء إذا كنّ نازحات في إحدى المخيمات القاسية.
“نازحة وما زلت أُعيد” هي الجملة الأولى التي استهلت بها سميحة إبراهيم (أم محمد) حديثها حول رحلة النزوح التي بدأتها وهي طفلة مع عائلتها بعد نكسة حزيران 1967 من قلقيلة في الضفة الغربية إلى مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق، سميحة خريجة علم اجتماع من جامعة دمشق.
ومع اندلاع الثورة السورية بداية العام 2011 وازدياد القصف على المناطق الثائرة في ضواحي دمشق وريفها التي تعد من أسخن مناطق الحرب في سورية بسبب قربها من دمشق العاصمة معقل النظام السوري استشهد زوج سميحة في إحدى الغارات التي شنها النظام السوري على مناطق الغوطة الشرقية حين كان يتواجد (أبو محمد) حيث أصابته القذيفة وهو يقود سيارته نهاية العام 2012.
وهنا بدأ الحمل الثقيل على عاتق سميحة، وهي أم لثلاثة أطفال (ابنتين وولد)، كان أخوتها يحاولون مساعدتها على التخفيف من متاعب الحياة. لكنّ الحال ازداد سوءً نتيجة القصف الذي تعرض له مخيم اليرموك شهر أيلول من العام 2012 ما اضطرها للهرب وأطفالها باتجاه ريف دمشق وتحديدا نحو داريا التي بدورها اصبحت مرمى نيران النظام وطائراته، هنا أصبحت وحيدةً لا معيل لها ولا أخوة وحالتها النفسية تزداد سوءً نتيجة ما حلّ بعائلتها فذاك الرجل الذي كانت تميل عليه حينما يقسو عليها الدهر قد رحل عن دنيا الظلم في لحظة وتركها تصارع عشرات الحروب في آنٍ واحد ، إنَّ مسألة بقاءها حيّة لم تكن في أوائل اهتمامات سميحة بل تأمين حياة صغارها والبحث عن لقمة طعام لهم بشكل يومي كان أشبه بمعجزة في ظل الكثافة النارية والحصار الخانق على المنطقة وغالبا ما يكون الطعام من الحشائش كالخس والبقلة أو بقايا الفواكه من الأشجار المكسرة حول البيوت المهدمة لكنها في تحدي للظروف.
قررت السيدة العمل لتخفف مشقة الحياة ولتطعم أطفالها الذين لا يقدرون على تحمّل الجوع فبدأت بالعمل من خلال المجلس المحلي للمدينة بالطبخ بكميات كبيزة لأبناء المنطقة المحاصرة، لكنّ عملها لم يكن يومياً بسب عدم توافر المواد بشكلٍ مستمر.
في الوقت الذي كانت تقضيه في غرفة سكنها أو حتى في الملجأ كان جلّ اهتمامها تدريس أطفالها وتعليمهم القراءة والكتابة بجدّ كي لا ينقطعوا عن الدراسة بسبب عدم وجود مدارس آنذاك أو بسبب القصف العنيف الذي كانت تتعرض له المنطقة فهناك العديد من الأطفال استشهدوا أثناء توجههم نحو مدارسهم.
في شهر يونيو من العام 2016 خرجت أم محمد مع أطفالها من مدينة داريا ضمن قوافل التهجير القسري ، كان هذا التهجير أصعب من كل الحرب لأنه كان أشبه باقتلاع شجرة معمرة من أرض خصبة وسط أنظار المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان وبرعاية الأمم المتحدة تم التغيير الديموغرافي لأهالي ريف دمشق إلى الشمال السوري ، كانت الحافلات كأنها دور عزاء كلّ من في الحافلة يبكي حتى الأطفال الرضع تركوا أثداء أمهاتهم وبكوا لفراق الأرض وقبور والأحبة… تقول سميحة كيف سأستطيع زيارة قبر زوجي إن ذهبت للشمال هل سأضع له الريحان وأسقي ترابه في العيد؟؟؟ كل هذه الأفكار كانت تتزاحم في بالها وكانت عجلات الحافلة كأنها تدوس على صدرها وليس على الأرض شعور تعجز أبجديات اللغات عن وصفه تقف أمامه صامتا وتتكلم لغة الدموع فقط ومن داريا باتجاه ادلب لتستقر سميحة مع أطفالها الثلاثة في مدينة خان شيخون، وحيدةً وجدت نفسها في خيمةٍ صغيرة لا تقي من حرّ الصيف ولا من قسوة الشتاء الى أن تبرع لها أحد سكان المنطقة بغرفة ومطبخ تسكن فيها وأبناءها، تشعرها بأمانٍ أكبر.
وفي الرابع من شهر أبريل العام ٢٠١٧ استفاقت مدينة خان شيخون التي تقطنها سميحة مع أطفالها على وقع مجزرة مروعة ارتكبها طيران النظام السوري والذي استخدم الغازات الكيماوية المحرمة دولياً، تقول السيدة “أحمدُ الله أننا كنا بعيدين نوعاً ما عن القصف في ذلك اليوم المشؤوم لكنني لم أستطع أن أتمالك نفسي في الخروج لمساعدة المصابين خاصة أنّ الأخبار المتناقلة بين أفراد المنطقة تتحدث عن عشرات الشهداء ومئات المصابين، أقفلتُ الشبابيك وأحطها باللاصق منعاً لتسرب الغازات السامة وأقفلتُ الباب على أطفالي وخرجتُ وأنا أضع كمامةً على أنفي، توجهتُ مُسرعةً نحو المكان وصُدمت بهول المَصاب وعدد المصابين، عادت بها الذاكرة إلى مجزرة الغوطة نفس الأسلوب القاتل الصامت لاوجود للدماء هنا والمنظر لا يثير أروقة حقوق الإنسان كانت وجوههم صفراء شاحبة وتحيط بعينيهم هالة من السواد وصوت سعالهم الناشف من تأثير الغاز السام أشبه ببحة المجروح الذي لم يلقَ علاجاً، حاولتُ جاهدةً أن أساعد بإسعاف الأطفال خاصة لكنّ الفاجعة وقعت على الأطفال أكثر من غيرهم”.
تابعت سميحة حياة النزوح في خان شيخون وهي تعمل في تعليم أبناء حيّها وتقويتهم في اللغة العربية والشعر داخل غرفتها الصغيرة، فهي ضليعةُ مولعةُ بالشعر العربي (كما تصف) كانت تساعد تلاميذ المنطقة المقصرين مع أبنائها في تقويتهم بالمواد وحلّ واجباتهم، كانت محبوبةً من أبناء منطقتها حيث أنّ الجميع كان يسارع لمساعدتها سواء عن طريق المنظمات المتواجدة في المنطقة أو عن طريق بعض العاملين في المجلس المحلي والعائلات.
إلى أن بدأ القصف الوحشي المكثف في شهر أغسطس من العام الحالي من قبل الطيران الروسي على المدينة ثم دخول قوات النظام السوري إليها قررت أم محمد النزوح إلى تركيا من خلال طرق التهريب خوفاً على حياة أطفالها وخشية قصف جديد يطال منطقةً أخرى تنزح إليها مجدداً.
طلبت من إحدى المسؤولين في المنطقة مساعدتها في إيجاد طريق آمن وغير مكلف نوعاً ما نحو تركيا… وفعلاً استطاعت وأطفالها تجاوز الحدود السورية التركية عن طريق الجبال شهوداً ونزولاً لا رحمة الطريق هنا ولا مكان الاستراحة وأي صوت سينبه شرطة الحدود التركية (الجندرما) ويُكشف أمرهم ساعات تحبس الأنفاس فرصة للحصول على حياة أأمن لا طيران لا اقتحامات وهنا بدأت حياة نزوح جديدة آمنة من نوع مختلف بعيداً عن القصف والدمار.
تستطرد أم محمد في حديثها أنّ تركيا لن تكون محطة النزوح الأخيرة (من وجهة نظرها) حيث أنّ الأوضاع لم تعد مستقرة بسبب التشديد على الأوراق الثبوتية المطلوبة (الكملك) والتي لا تمتلكها وأطفال على اعتبار أنّ دخولها كان حديثاً الى تركيا، إضافة لغلاء المعيشة مقارنةً بمناطق الداخل، لكنها تصرّ على العمل جاهدةً في سبيل أن تعيل أطفالها وتدخلهم المدارس ليكملوا تعليمهم ويعوضوا في ما فاتهم وهي ما تزال مستمرة الى اليوم في تعليم الأطفال واعطاء دروس التقوية لهم في اللغة ومحاولة الاندماج مع شعب مختلف الثقافة والعادات والتقاليد واللغة ليس بالأمر السهل فكيف لامرأة صفعتها الحياة كثيرا حتى نسيت أنوثتها هذه الحرب عليها أصعب من الولادة من الخاصرة بالنسبة لسميحة ومثيلاتها.
خاص بشبكة المرأة السورية