Search
Close this search box.

مانترا

مانترا

منتهى شريف

تاهت مني  السحابة فجأة, كنت أراقبها معهم  بشغف،  لكن ما أن اغمضتُ عيني حتى ازدحمت في خيالي مئات الأطياف. كانت لحظة قصيرة كما ظننتُ, ضبطتُ أنفاسي خلالها على إيقاع الموسيقى الهادئة التي تصدرها آلة التسجيل العتيقة فانطلقتُ أتأرجح بخيالي.

 أيقظتني فجأة أصواتهم, كان سامح قد خرج من الدائرة التي صنعناها معاً، حيث تشابكت أيدينا وجلسنا بصمت نراقب السماء. اقتربت منه وأمسكت يده مشيرة لرفاقه قائلة: “تعال معنا إلى  دائرة المحبه!” … فاجأني بزفرة قوية، وشد  يده من بين أصابعي وابتعد مسرعاً, لاحظت في عينيه غضباً بدأ يبرق بشيء لم أفهمه!

هكذا تعودت أن أستقبل تلاميذي مع بداية كل عام دراسي جديد. أعلمهم مانترا المحبة وأعطيهم مفاتيح أبواب جديدة لاكتشاف معاني الجمال والحب في واقع الحرب والكراهية والعنف. نجلس في باحة المدرسة على الأرض مشكلين حلقة أطلقت عليها دائرة المحبة، “بالحب سنبدأ سنتنا الدراسية وبإنشاء علاقة دافئة من خلال تشابك أيدينا”، هذا ما أقوله لهم.

لم أكن قبل هذه السنوات الأخيرة من الحرب أفكر بأن دوري كمعلمة سيذهب بعيداً إلى هذا الحد، فمهمتي لم تعد تعليمهم الأرقام والحروف، بل يتوجب علي مساعدتهم على التعافي والنجاة والإصرار على العيش.

سامح في السادسة من عمره.  كُتب له ولوالدته النجاة من حجز دام سنتين من قبل فصائل متطرفة، لكن منذ لحظة رأيته عرفت أنه لم ينج.

كل عام ألتقي بتلاميذ  جُدد, وأكتشف مقدار الخوف الذي بات  يسكن جيناتهم. خوف تنفسه الأطفال مع الشهقة الأولى, وبات كمانترا , تتأرجح داخل أرواحهم، فلقد ورثوا من الحرب أرواحاً متعبة, ورضعوا الخوف والقلق, خوفٌ تنوع بتنوع دروبِهم ومحطات ترحالهم والمدن التي  قدموا هاربين منها ليلتقوا جميعاً في بلدتنا “الآمنة نسبياً”.

أيقنت منذ زمن أن للكلمات والأفكار طاقة لا تفنى, بتنا محاطين بأسوار منها,  ينفثها  البشر المتعبين، يتبادلون أفكاراً ملفوفة باليأس كما يتبادلون نظرات تفيض بحكايا الحرمان والفقر وذكريات الحرب.

لكن  نظرة سامح كانت أغرب ما رأيت، كان يحمل بداخله رعباً من نوع آخر , تذكرت كلام والدته عندما قالت: “ابني بدأ يخيفني”.

أشار فاروق  أنه  أيضاً لا يريد اللعب, هو طفل  عاجز عن النطق,  فقد صوته, بعد إجباره على  الاختباء مع أسرته وأقاربه بقبو ضيق  لمدة طويلة هرباً من القذائف, في فترة الاختباء تلك. ولأن  فاروق كان الأصغر، فقد كان الجميع يوصيه بالصمت، فما ان ينظر إليه احدهم حتى يشير له بإصبعه :”هس … اسكت!”

قال لي والده: “طلعنا من القبو وهربنا، لكن صوت ابني ما عاد طلع”.

كانت سلمى لاتزال تمد يدها لفاروق الذي رفض اللعب وخرج من دائرة المحبة لينضم إلى سامح ويجلسا بالقرب من شجرة السرو في زاوية الباحة.

  نظرت إلي سلمى واقترحت أن نلعب لعبة الأشجار.  

 انتشر الأطفال في الباحة ثم تجمد كل منهم صانعاً من جسده شجرة، مشكلاً بيديه أغصانها الحرة, الجميع بدا ثابتاً ومستمتعاً، أما سامح وفاروق فقد اتكآ على جذع شجرة السرو وكأنهما أصبحا جزءاً منها.

 مهمتي  كمعلمة كانت تزداد صعوبة كل سنة,  مع غياب المثل الأعلى لهؤلاء الأطفال،  فالشرطي مثلاً لم يعد نفسه الشرطي الذي يصفونه بالكتاب المدرسي وكذلك التاجر والقاضي  وعامل التنظيفات وحتى الأب والأم.

لقد ضاع  دليلهم، لذلك لجأت للطبيعة وحاولت نسج علاقه بين الأطفال وبين المكونات الثابتة في الحياة، فالأشجار وحدها لاتزال تتقن العطاء دون مقابل  والشمس لاتخلف بالمواعيد والسماء بتقلباتها، لا تزال هي السماء، تحمل لهم الكثير من الجمال والمفاجآت المدهشة.

فجأة هبت ريح قوية وهزت أشجاري الصغيرة فترنحت الأغصان وفلتت منهم الضحكات.

لدقائق بقوا يحاولون الوقوف  بثبات وكأنهم يتحدُّون الريح, لكن السماء تلبدت بالغيوم فجأة وبدأت  نقاط المطر تتساقط  عليهم, فرفعوا وجوههم  باتجاه السماء تاركين المطر يدغدغ وجناتهم الصغيرة ومدوا حفنات أيديهم لالتقاط حبات المطر التي بدأت بالهطول بغزارة لتبلل شعرهم وثيابهم. 

فعلت مثلهم، تخيلت نفسي كشجرة سنديان وتأرجحت يداي وأنفاسي مع الريح، ثم صحوت بسرعة من خيالاتي وطلبت منهم الدخول إلى غرفة الصف بسرعة، لكن ما أن أغلقت الباب, حتى ملأت العتمة المكان.

اقترب فاروق وأمسك يدي بأصابعه المرتجفة, وصرخت سلام: “عتم، ليش صار في عتم كثير هون؟”

عيونهم بدأت تبحث عن النور في مكان عمر جدرانه خمسون عاماً، وربما أكثر، وعلى سقفه رسمت المياه المتسربه لوحة سريالية الملامح تبدو في العتمة صور أشباح مرعبة.

أشارت جوري بإصبعها الصغير للنافذة الضيقة وقالت: “ربما لأن النوافذ صغيرة, لا يدخل منها  الضوء!”

تنهدتُ وأنا أستمع لتحليلاتهم حول أسباب العتمة في غرفة الصف الذي مضت على حاله هذه سنوات كثيرة، كيف سأشرح لهم مطالباتنا الكثيرة بترميم المدرسة وبمولدة كهرباء؟ العتمة والتشققات والرطوبة والبرد؟ كيف سأشرح لهم عن العقل الذي بنى سوراً اسمنتياً عالياً كان كفيلاً بحجب جزء ليس بقليل من الضوء عن المدرسة. عن ” الكولبات” الاسمنتية التي بنيت حولها والتي أكملت على بصيص النور.

أصابتني الدهشة وأنا أستمع لحوارهم ولحلول لم تخطر ببالي.

  • نجلب مطارق ونوسع النوافذ.
  •  … نهد السور!

سومر اقترح أن نزيل السقف نهائياً، وبانا اقترحت أن ندرس في “البرية”.

 مشى رام باتجاه السبورة واستدار إليهم، وقال بتباه: “أنا سوف أحل المشكله!”

أمسك الطبشوره ورسم شمساً كبيره باللون الأصفر وشرح لهم: “سوف نصنع شمساً لا شيء يحجبها”.

جلست في أحد المقاعد وبدأت أراقبهم وهم يخرجون لمساعدته، وعندما وقعت الطبشورة من يد سلمى وتدحرجت على الأرض, رأيت سامح ينحني ويلتقطها، ثم يقترب من السبورة ويبدأ برسم شمسه، وما هي إلا دقائق حتى امتلأت السبورة بشموس كثيرة ملونة، أضاءت قلبي وبددت عتمة ذاك المكان.

  • مانترا: تتألف كلمة “مانترا” السنسكريتية من مقطعين: “مان” وتعني التفكير و(وهناك كلمة “ماناس” وتعني الروح)، ومن كلمة “ترا” التي تعني “تحرير”، فيصبح معناها “تحرير الروح أو العقل”. وهناك من يقول أن “ترا” تترجم إلى “أداة” مما يصبح معناها “أداة التفكير”. أقرب معانيها في العربية هي “تعويذة”. أما من ناحية مفعولها، فأقرب كلمة عربية لها هي “الذكر” بالمعنى الصوفي الإسلامي والتي تستعمل لارتقاء الروح. (عن ويكيبيديا)

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »