أسامة العاشور
على مدى أكثر من أربعة أشهر، والمعارك مستمرة في ريف حماة الشمالي وجنوب إدلب وتوقفت مؤقتاً بعد سقوط منطقة خان شيخون إثر القصف الرهيب والمعارك العنيفة التي خلفت 1282 شهيداً مدنياً، بينهم 219 امرأة و341 طفل وما يقرب من 945 ألف نازح جديد، تركوا منازلهم باتجاه المناطق القريبة من الحدود التركية.
إن النزوح هو عملية اقتلاع إجبارية من صنع “بشر” وليس نتيجة كوارث طبيعة كما يحدث في بعض دول العالم، طال نصف سكان سورية وربما أكثر. إنه نتيجة الإرهاب الداخلي الذي اتخذ شكل (إدارة التوحش) لسلطة تراهن على الحسم العسكري والذي تغذيه الصراعات الاقليمية والدولية ورفض الدخول في حلّ سياسي يتضمن انتقالاً ديموقراطياً.
تداعيات النزوح القسري
يعاني النازحون من فقدان السكن والعمل والدخل المادي والمدخرات والممتلكات، والتعليم والرعاية الصحية ومستلزمات الحياة والتغيرات الأمنية والسياسية، التي قد تحول منطقة النزوح، إلى مناطق غير آمنة أيضاً ترتفع فيها معدلات الجريمة كالنهب المسلح، والقتل، والاغتصاب، والعنف ضد النساء والأطفال، وتجارة الممنوعات، والسرقة، والزواج القسري للقاصرات، وظاهرة أطفال الشوارع والمشردين، وانتشار الأمراض النفسية والعقلية، فقد قدرت دراسة أجرتها الغرفة الألمانية الاتحادية للمعالجين النفسيين في العام 2015 أن نصف اللاجئين السوريين الذين يعيشون في ألمانيا لديهم مشاكل عقلية كالشيزوفرنيا والهوس الاكتئابي، وأفادت السلطات التركية بأن 55 %من اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، بحاجة إلى دعم نفسي وإن كل هذه الحالات تعاني من اضطرابات الشخصية بأنواعها المختلفة ومعدلات مرضية أعلى من المستويات الاعتيادية. هذا إضافة إلى أنَّ النساء والفتيات الصغيرات يكنَّ أكثر عرضة للعنف الجنسي ويشعرن بانعدام الأمان ويعانين من الانزواء بسبب شعورهن بالاكتئاب وبالرغم من أن الصحة العقلية والنفسية حق أساسي يجب أن يتمكن كل فرد من الحصول عليه، فإن الأفكار السلبية التي تصم هذا الحق والاستخفاف بأهميته جعل نسبة الذين يتلقون العلاج المناسب لا تتجاوز خمسة بالمائة فقط من اللاجئين والنازحين.
بعد إغلاق تركيا حدودها ومناطق نفوذها وكذلك إغلاق قسد منطقة شرق الفرات أمام نازحي الموجة الأخيرة وتغول هيئة تحرير الشام عليهم، لم يتبق لهم سوى العراء وظلال الأشجار والتي أصبحت أمكنة إقامة يؤخذ منهم إيجارها!
إن تأمين السلامة البدنية للنساء، ومنع العنف الجنسي، والترحيل القسري، والحصول على الرعاية الطبية، والأغذية والمأوى، والحصول على الوثائق الشخصية له الأولوية، وهذا لا ينفي وجود احتياجات خاصة بالرجال، أو يقلل من شأن معاناتهم أثناء الحرب. ولكن النظرة الذكورية الدونية للمرأة واختزالها كأداة جنسية، في جميع الحالات والأوضاع في الحرب والسلم وفي التشرد والنزوح واللجوء وعدم النظر إليها كإنسان كامل الوجود والأهلية وله نفس الحقوق والكرامة الإنسانية يضاعف الغبن والاضطهاد الذي تتعرص له النساء، فغالباً ما يتم الهجوم على خياراتهنَّ الشخصية ويطلب منهن إخفاء أشكالهنّ وأصواتهن ويمنعن من التعلم او العمل أو حتى تلقي الخدمات الصحية الضرورية والمتعلقة باستمرار الأسرة والنوع ناهيك عن المشاركة في الشأن العام المدني والسياسي. كما تفرض عليهن أشكال ملابسهن قبل دخولهن المدارس الابتدائية حتى آخر العمر، ويتم انتهاك حرمات حيواتهنّ الخاصة تحت مقولات الولاية والوصاية والقوامة وإن كنِّ هن من يصرفن على عائلاتهن، ويواجهن القدح والذم والسخرية ذات الطابع الجنسي ويتم التحرش بهنَّ علناً في الشارع والعمل والمنزل، ويتعرضن للعنف الجسدي بدون مساءلة أو محاسبة ويُهدَّدنَ بالاغتصاب من ذوي النفوذ وسلطات الأمر الواقع. وحتى في بعض الأحيان من الأقارب الموتورين والمأزومين والمنحرفين. وإن وقعن ضحايا لهذا العنف والاستغلال لسبب من الأسباب فإنهنّ يتعرضن للقتل تحت ذريعة غسل العار من أقرب أقربائهن، وبرضى مجتمعي عام وغالباً ما تتنصل اللجان الدولية والمجتمعات المحلية من التزاماتها تجاه احتياجات النساء أثناء الحرب والنزوح، ولا يراعى فيها النوع الاجتماعي. وكثيراً ما تم ربط المساعدات “الانسانية ” بالخدمات الجنسية، مما يجعل النساء عرضة للألم الصامت، والمشاعر السلبية، وفقدان الثقة بالمحيط.
ما الذي تحتاجه النازحات والنازحون؟
نشرت إحدى الناشطات، والتي نزحت مرات عدة أثناء التصعيد الأخير على إدلب، تسجيلاً ذكرت فيه: أن المسيطر على حياتهم هو الخوف، فإذا اضطرت إلى الخروج من مسكنهم القائم “بين الانقاض” ولمسافة 50م فقط لقضاء حاجة ما فإنها تودّع أطفالها وتوصي أكبرهم (17 عاماً) بأخواته الأصغر لأنها لا تعلم إن كانت ستعود أم لا. وإن كانوا داخل مسكنهم المكشوف للسماء وسمعوا دوي القصف أو هدير الطائرات فإنها تحتضن أولادها الخمسة ليموتوا معاً إذا تحتم القضاء، فالموت تحت الأنقاض أو تحول أجسادهم إلى أشلاء يترصدهم في كل لحظة.
النازحون يحتاجون إلى كل شيء، لأنهم لا يملكون شيئاً. إنهم يحتاجون إلى الغذاء، والماء، والمأوى، والرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية والاقتصادية الحساسة للجندر. ولكن الأهم من ذلك كله إنهم بحاجة إلى الأمل، أي الجواب على سؤال متى ستنتهي معاناتهم وماذا يخبئ لهم المستقبل؟