Search
Close this search box.

أنماط جديدة تحكم السوريات

أنماط جديدة تحكم السوريات

آلاء عوض

تطرّق تقرير ميداني نشرته صحيفة نيويورك تايمز، أواخر الشهر الماضي، بعنوان (كيف يبدو الانتصار؟!.. رحلة لنيويورك تايمز في سوريا المدمرة) للصحفية فيفيان يي (مراسلة نيويورك تايمز في بيروت)، إلى واقع المرأة السورية في الوقت الراهن، والتحديات الجديدة التي تواجهها، مؤكداً أن المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتقها ليست هيّنة بالنسبة لتربيتها، أدواتها، وثقافتها. التقرير أعده فريق مكون من عدد من الصحفيين أمريكيين زاروا سوريا وقضوا أسبوعاً متجولين بين المدن السورية، محاولين رصدَ عودة الحياة في بعض الأحياء والمدن المنكوبة والمدمرة.

واحدة من القصص التي تطرق لها التقرير، لسيدة خمسينية، أصبحت بعد وفاة أولادها وزوجها المعيلة الوحيدة لأحفادها “لقد سرقت الحرب أعمارهم، بعدما أكل السجن شبابهم، أو تشردوا بعيداً عن سوريا. والآن بات يتعين على الناجين كأم خليل وهي جدة ذات وجه دائري بلغت التاسعة والخمسين من عمرها، أن يعوضوا عن غياب هؤلاء الشباب. فقد قتل ثلاثة من أبنائها الذكور، وتعرض آخر للتعذيب في سجن للثوار، أما الخامس فقد اختفى في معتقلات النظام. وهكذا أصبح على كناتها أن يخرجن للعمل، بينما أخذت هي تربي أحفادها بغياب زوجها الذي قتل في غارة جوية”.

وتحكي أم خليل التي تعيش في شقة تعود لمعارفها الأباعد، حيث يقيم من تبقى من أفراد عائلتها وتقول: “أجلس وأفكر في بعض الأحيان كيف حدث ذلك؟ كان لدي أبناء يعملون، كان كل شيء طبيعياً، وفجأة خسرتهم. كان لدي زوج، فقدته هو أيضاً. ليست لدي أية إجابات، فليسامح الله من كان السبب في كل ذلك”.

موضوع آخر، أشار إليه التقرير، وهو العادات الاجتماعية التي تحكّمت بالمرأة السورية طوال عقود وليس من السهولة القفز عنها وتجاوزها: مع رحيل عدد كبير من الشباب، ألقيت هذه المهمة على عاتق كبار السن، واليافعين الصغار، لاسيما النساء، ومنهم نساء العائلات المحافظة اللواتي خرجن للعمل لأول مرة في حياتهن. حول ذلك تعلق أم عقيل وهي امرأة في الأربعين من عمرها من حلب الشرقية بالقول: “لم يخطر ببالي أني سأضطر للخروج للعمل في حياتي، لكن ذلك يظل أفضل من استجداء المال من الناس”، وتذكر لنا هذه المرأة بأن زوجها اعتقلته حكومة النظام ظلماً، لكنها تكافح الآن لتعيش، وأصبحت تدفع بناتها نحو التوجه للعمل بعد استكمال دراستهن في المدارس، وتقول: “حتى لا يواجهن المصير الذي لاقيته”.

الصحافي ماهر وكاع، علّق على هذا الموضوع بقوله “وضع المرأة السورية لا يدعو للتفاؤل، وهذه الحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية استطاعت المرأة الألمانية النهوض بالمجتمع الألماني وإعادة إعمار ألمانيا المدمرة، لأنها في الأساس امرأة قوية متحررة من العادات، لا قيود تحكمها أو تتحكم بطريقة تفكيرها، لذا كانت قادرة على تطوير أدواتها بسهولة وسرعة والدخول إلى سوق العمل، محقّقة حضوراً استثنائياً في كل الحقول بما فيها تلك التي لها صبغة ذكورية”.

مضيفاً: “بالنسبة لوضع الامرأة السورية فإنها الآن تعيش محنة التغيير، وتتطلب كفاح على مستويين الأول قهر العادات التي لا تحبّذ عمل المرأة، والثاني أن تتغلب هي على ذاتها ومخاوفها بما في ذلك قلّة ثقتها بنفسها الناتج في الأصل عن مؤهلات شبه معدومة، وتعليم متواضع، وثقافة مغايرة تُعلي من شأنها كزوجة وأم، وتقلّل منه في الحالة المعاكسة (كإنسانة لها كيانها يجوز لها تحقيق ذاتها وطموحها العملي). المرأة العاملة والمستقلة ذات الشخصية القوية كانت وما زالت تُهاجم في المجتمع السوري، وينظر لها نظرة غريبة ومريبة. تغيّرت الأساليب لكن جوهر الأفكار ما يزال صامداً”.

فتاة سورية مقيمة في فرنسا منذ مدة طويلة، التقيتُ بها مؤخراً في مدينة تركية حدودية، تفاجأتْ من مستوى البطالة لدى السيدات السوريات، وسألتني ما إذا كنَّ هنَّ لا يحبّذن العمل، أم أن فرص العمل قليلة وهنَّ يحاولن؟ لم أعرف بالضبط ما هي الإجابة الدقيقة لكن في تلك اللحظة بالتحديد خطر ببالي موضوع آخر له علاقة بحبّ العمل، الشغف بمهنة معينة، كما في كل العالم المتحضّر الذي تستقي تلك الفتاة أفكارها منه، أن تكون المرأة ميالة لفرع معين (الحقوق على سبيل المثال) فتكمل دراستها له، وتعمل به، وبالتالي تعيش حالة توازن فكري ونفسي لأنها تشتغل بما تحبّ. بالنسبة للمرأة السورية في الوقت الراهن ليس لديها خيارات الانتقاء أو حتى رفاه الإحساس بميولها، ومن ثمّ إكمال دراستها أو تدريبها المهني لصقل تلك الميول والخوض في المجال الذي تريد. المرأة السورية وجدت نفسها مجبرة حالياً على القيام بأعمال روتينية ونمطية، وفي أغلب الأحيان شاقة وطويلة، ومن الممكن أن تكون بعيدة كثيراً عن رغباتها وتوجهها، لكنها مضطرة على مزاولتها لإعالة أبنائها أو أهلها، ناهيكَ عن اعتيادها السابق الجسدي والفكري على حالة عدم العمل، ما يفضي إلى تكبدها مشاق أكبر، وشعورها أنها مسحوقة ومضطهدة، وهذا الأمر يؤدي في غالب الأحيان إلى عدم قدرتها على إكمال العمل، التسرب من العديد من الأشغال، ومن ثم عدم قدرتها على بناء خبرة معمّقة في مجال واحد. “العديد من النساء السوريات -خاصةً في بلدان اللجوء- يخضن في مجالات متعددة، وأعمال متنوعة، لذلك لا يتكون لديهنَّ تراكم معرفي أو مهني في ميدان واحد”.

وبالعودة لحبّ العمل وتحقيق الذات فإن الخوض في هذا الموضوع بالنسبة لواقع المرأة السورية يندرج في وقتنا الراهن تحت إطار المثالية البعيدة جداً عن المنال، لأنه عند حديثنا عن المرأة السورية ينبغي علينا التذكر بأنها منكوبة ومحبطة، ليس لديها الدافع للقيام بالكثير، وأحلامها تقلّصت إلى مستوى إطعام أبنائها، أحفادها، أو أحد أفراد أسرتها المعطوبين، وتأمين حياة كريمة لهم بعيداً عن أي طموحات على مستويات أخرى. تقول الفتاة السورية ذات الثقافة الفرنسية “في هذه الحالة، هنّ بحاجة لجلسات دعم نفسي لدى أخصائيين تخرجهن من الإحباط، إذ ينبغي على الإنسان أن يكون لديه دافع عالي وحبّ القيام ببعض الأعمال والأنشطة وإلا فإنه يُصنّف وفقاً للدول المتحضرة مريضاً/ مضطرباً ويكون بحاجة لعلاج”.

بعيداً عن الحديث كثيراً عن ظروف السوريين، وقلة فرص العمل المتاحة لهم، والبطالة الفائقة التي يعيشونها رجالاً ونساء على السواء وفي كل الأصقاع، إلا أنّ كثيرات من السوريات وعلى الرغم من قتامة أحوالهن وبؤسها قادرات على مداراة أنفسهن والخروج من (الإحباط) دون الاستعانة بأخصائيين. أجيبها: “هن فقط بحاجة لفرص عمل منصفة، وكثيراً من التوجيه نحو صناعة مهن خاصة بهنّ دوناً عن الأعمال المتفرقة المؤقتة التي لم تسُقهنَّ إلا نحو مزيد من التخبط والضياع”.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »