أمينة بريمكو
زاهيدة رشكليو المراة التي سمع عنها الكثيرون من خلال حادثة مقتل الشهيد مشعل تمو، لكن ما لا يعرفه السوريون، بان زاهدة لم تكن عبارة عن بطلة قصة حدثت خلال دقائق معدودة في حادثة مريرة خسرنا من خلالها اول قائد كردي واجه الاحزاب الكردية التقليدية وقرر بانه هو وحزبه جزء من الثورة السورية ونزل الى الشارع للتظاهر.
زاهيدة كانت ولا زالت تاريخ نضالي نسوي فريد، كان لابد من الاستماع اليها اولا لنتعرف عليها ومن ثم نستمع لبعض اصدقاءها، رغبة منا بان نمنح هذه السيدة شرف التعرف عليها.
زاهيدة رشكيلو من مواليد قرية بعدنلي تابعة لناحية راجو منطقة عفرين محافظة حلب، انتسبت الى صفوف الحزب العمل الديمقراطي الكوردي في سوريا أواسط الثمانينات، ثم تابعت مسيرتها النضالية في صفوف الحزب الموحد، ومن ثم حزب الوحدة، وسط أجواء من الانقسامات و تشرزومات الحركة الوطنية الكوردية، ونتيجة الخلافات التي حصلت في صفوف الحزب الوحدة الديمقراطي الكوردي في سوريا (يكيتي) بعد المؤتمر الثاني استمرت الخلافات في تلك الفترة واشتدت الصراعات ابتدأً من عام 1988 الى 2000 . بعد ذلك تم انعقاد المؤتمر الثالث لحزب بغياب مجموعة كبيرة من رفاق اطلقوا على انفسهم بالمستنكيفين و قرار المؤتمركان حين ذاك برفع صفة الحزبية عنهم – منهم حسن صالح و مروان عثمان و عبد البافي يوسف و فؤاد عليكو. ثم قرر مجموعة من رفاق الحزب في منظمة عفرين لحزب الوحدة بحل الخلاف و الضغط على قيادة الحزب و صدروا نداء باسم قواعد يكيتي في كرداغ كدعوة الى انعقاد المؤتمر الاستثنائي بحضور الطرفين و لجنة مستقلة من الوطنيين، لكن الامر استهتارا و تهميشا بل حتى تخوينا كالعادة من قبل القيادة، بينما رحب بها مجموعة رفاق خارج الذين اصبحوا خارج الحزب. و في شهر اذار من عام 2000 انعقد المؤتمر التأسيسي الاول و تم تشكيل الحزب يكيتي الكوردي في سوريا و هكذا بدأت مسيرة زاهدة الحزبية في صفوف اليكتي الى عام 2006، حيث نتيجة حدوث اختراقات أمنية في منظمة حلب التي كانت زاهدة عضوة في لجنة منطقية تم اعتقال 12 عضو من المنظمة ومن بينهم الشهيد تحسين ممو و استدعاء زاهدة من قبل الفروع الامنية بحلب و اجراء تحقيقات معها، حينها أدرك الشهيد المناضل مشعل تمو بخطورة الوضع و طلب من زاهدة ان تترك الحزب، وبعد ثلاثة اشهر من نفس العام انتسبت زاهيدة الى تيار المستقبل الكوردي في سوريا. وبا عملها كقيادية مع صديقها واستاذها الشهيد مشعل تمو.
يفتتح الصحفي حسين جلبي مقالة له عن زاهدة بهذه الكلمات:
“قد يظن البعض، ممن لا يعرف تلك المرأة الحديدية زاهدة رشكيلو، أن الصدفة وحدها، أو القضاء و القدر هو من قادها قبل عامٍ من الآن إلى ذلك المنزل الذي تواجد فيه الشهيد مشعل تمو حيث جرى إغتياله، و إن ما أصابها من رصاصٍ خلال تلك العملية الدنيئة، و التي سببت لها جروحاً لم تندمل بعد، كانت مُجرد رصاصاتٍ طاتشة أخطأت الهدق الحقيقي للقتلة، أو في أحسن الأحوال نتيجة رد فعلٍ إنساني، عندما لم تجد شيئاً تفعلهُ لشخصٍ عزيز سوى إلقاء نفسها أمامه لحمايته، و لمنع المزيد من الرصاص الغادر من إختراق جسده الطاهر. لكن التعرف عن قرب على السيدة رشكيلو يكشف خطأ ذلك الإنطباع، و يفتح أعيننا على مناضلة صُلبة لا تقل وعياً عن اللواتي قرأنا عنهن في كُتب التاريخ، ممن غيرن أقدار شعوبٍ و دولٍ بأكملها، فتم تخليد ذكراهن بإطلاق أسمائهن على الأماكن و الجادات و الشوارع، أو على الأقل من طراز مناضلات اللواتي تعرفنا عليهن في أيامنا هذه، ممن حصدن الجوائز المختلفة، مثل نوبل و غيرها.
وانا احضرهذا المقال ونتيجة صداقتي العميقة مع زاهيدة حاولت ان اتحدث معها في امور كثيرة، خاصة حادثة مقتل الشهيد أبو فارس، لكنني كنت اتجنب ذكر الحادثة خوفاً علىها بان تصاب بنكسة معنوية حادة.
من الصعب ان يقتل رفيق دربك امام عينيك وانك لا تستطيع ان تحميه سوى بجسدك، لكنني ساعود الان الى لقاءاتي الشخصية معها في مدينة حلب عندما كنت اطمئن على صحتها بعد الحادثة. اعتقد لا بد بان تكون لتلك الحادثة حيزاً في هذا المقال، لانه الجزء الذي غير حياتها الى الابد.
كانت تروي لي الحادثة بكثير من الدموع: “وصلت إلى مكان إقامة أبو فارس.. كان هناك صديق أخر.. حدث كل شيء في ومضة خاطفة..اقتحم أربعة مسلحين مجهولين المنزل الذي كان يختبئ به أبو فارس.. وأمروا أبو فارس بالذهاب معهم…. لكنهم وجهوا الأسلحة إليه.. توقف الزمن، وشعرت بأنني أواجه الموت.. وعندما صوبوا أسلحتهم نحو أبو فارس، وقبل أن تنطلق أول رصاصة نحوه، ركضت ومنعتهم وأنا أتوسل إليهم أن يتركوا مشعل حياً.. بينما كان صديقنا والشاهد الوحيد على هذه المأساة يبكي بصمت وهو مصدوم.. فأطلقوا أول رصاصة على ساقي.. ولكنهم لم يتوقفوا كانوا مصرين على توجيه رشاشاتهم إلى أبو فارس، وأنا وسط الدهشة والصدمة حميت بافي فارس بجسدي. دنا نحوي أحد المسلحين، ووضع فوهة السلاح على ساقي وأطلق رصاصة ثانية. وقبل أن أسقط مغشية علي، سمعت صوت طلقة أخرى، وبين اليقظة والحلم لمحت رأس بافي فارس يسقط على الوسادة ويغمض عينيه.. وعندما فتحت جفنيَّ وجدتني في غرفة في مشفى فرمان في قامشلي على نحيب النساء وصراخهم..”
التيقنا برفيق دربها مروان عثمان وكان هذا الحديث الشيق: “زاهيدة رشكيلو من الكوادر النسائية الكوردية المميزة ، مقدودة بشموخ كرداغ وعطاء أشجارالزيتون ..انها امرأة بقدراتسامها بالبساطة والتسامح والهدوء الا انها مدافعة عنيدة عن مواقفها ورؤاه ..تعرفت عليها في بدايات إعادة تشكيل حزب يكيتي الكردي في نهاية التسعينات من خلال اللقاءات الموسعة للكوادر، التي كانت تعقد لصياغة الرؤية السياسية لتكون منطلقا للبرنامج السياسي المقبل. كانت ،غالبا هي المرأة الوحيدة في تلك اللقاءات، والتي كانت تعقد على الغالب في القامشلي، ولم تتذمر يوما من بُعد المنطقة او استمرار اللقاءات لساعات او لايام. اولقد كان لها حضورا مميزا في تلك اللقاءات.
لقد كانت قادرة ان تفرض احترامها وتقديرها ليس فقط بين رفاق حزبها واصدقائها المقربين وانما في وسطها الاجتماعي بعفرين وحلب أيضا، لقد زرتها اكثر من مرة في حلب وفي كرداغ، وشاهدت مدى تقدير أهلها والمحيطين بها من أهالي قريتها لها ، وتقديرهم لعملها السياسي. وتعد هذه ظاهرة ، الى حد ما نادرة في المجتمع الكردي، هناك قلة من الكوادر النسائية، وقلة من الشخصيات النسائية الكردية، التي تتفرغ للعمل السياسي ، وقلة أيضا من النساء، اللواتي تكن قادرات على عقد الاجتماعات واللقاءات السياسية والحزبية في بيوتهن، وبين ذويهن وجميع من حولهن يشدون من عزمهن ويؤازرهن. اعتقد ان ذلك لم يأت من فراغ ، وانما كان نتاج تفان وتضحية كبيرين، حتى استطاعت ان ترسخ قيم معينة في وسطها وتفرض عليه قناعاتها وشخصيتها.
وكان لنا لقاء اخر مع اهم الرفاق الذي عملوا مع زاهيدة خلال سنوات طويلة احمد زيبار:
“حينما تدخل هذه زاهدة إلى حياتك فمن الصعب أن تخرج منها وكيف لا أنها إبنت أسرةِ تربت فيها على الروح القومية ومحبة الإنسان، شخصيتها محترمة ولها خصوصية، وهنا وما سجل في ذاكرتي ولا يمكن نسيان أمرين أثنين بهذا الخصوص فأولوهما – في البيئة القروية العفرينية والكل يعلم العادات والتقاليد التي تتحكم بنا من كلا الجنسين وبالأخص الأنثى , وكان موقع أهتمامي وتفكيري وجلَ إحترامي لهذه الأسرة التي لا تعيير كثيراً لكلام وأقاويل الغير وترك فسحة كبيرة أمام صبية في مقتبل العمر لتمارس قناعاتها. لخدمة الأمة والشعب المقهور وتقارع النظام الأمني المخابراتي كيف استطاعت هذه الفتاة أن تقنع الأهل وتكسب ثقة رجال البيت قبل نسائها وتبرهن من الناحية العملية أنها أهل لهذه الثقة رغم كل الصعاب , تلك الحالة ليست حالة طبيعية بل نتاج قناعة قوية في التضحية ويعتبر هذا تجاوزاً للخطوط الحمر في المجتمع , ورغم كل ذلك أستطاعت هذه الأنثى أن تحافظ على إحترام المجتمع الكردي لها , وأن تكون في أعينهم مقاتلة ومناضلة ولها أنتماء سياسي في خدمة قضية شعبها , وهنا أتذكر نوروز عام 1985 في موقع كتخ (على طريق عفرين – راجو ) وعلى مقربة من قرية بعدينا مسقط رأس السيدة زاهيدة حينها وعلى المفارق الشرطة السورية تمنع ذهاب الجماهير إلى موقع المراد التجمع فيها للإحتفال , والناس مع الشرطة محاولين المرور بالآليات وهم يمنعونهم , خرجت صبية من بين الناس وفي يدها منديل والناس تتبعها وهي تقول أخوتي دعوهم لنكمل السير مشياً على الأقدام هم بإمكانهم توقيف الآليات، ولكن لا يمكنهم إيقافنا إلا بالموت وهذه اللوحة أمام عيني، وهي كقائدة تمشي في المقدمة حينها كانت هذه الصبية من رفاق حزب العمل الديمقراطي الكردي في سوريا , وهذا ما كان يزيد من إفتخاري والقول بين المقربين هذه رفيقة الحزب هكذا نحن لا نهاب أحد لدينا المقدرة والتضحية ولا نبالي ولا نغالي بشئ في سبيل الشعب , نعم سيدتي تستحقي كل الإحترام ولا يستطيع أحد أن يقدر لك ما قمت به في مسيرتك النضالية الطويلة وسط هذه الظروف التي تمر بها الحركة الكردية وما يدور في محيطها وتدخلاتها إلا من أحتك معك عن قرب وهي ليست بمنة بل للإنصاف فقط ,وخلال المسيرة النضالية كما أسميها أنا على الأقل تطورت العلاقة وأصبحت هذه الفتاة والعائلة من الأصدقاء المقربين جداً والأهل أهلي والعكس كذلك ولذلك كنت مطلعاً على حياة هذه المناضلة بكل التفاصيل وكان لنا – وبحكم الإنتماء الحزبي أولاً وبحكم العلاقة الإجتماعية ثانياً – لقاءات عمل عديدة تتعلق بالنشاط الحزبي والأجتماعي، وذلك خلال فترة عقد من الزمن ( وسط الثمانينات – وسط التسعينات ) أي إبتداءاً من العمل ضمن صفوف حزب العمل الديمقرطي الكردي ومروراً بحزب الموحد وإنتهاءاً بحزب الوحدة , وفي كل المواقع سواءأ ندوات سياسية أو في العقد الإجتماعية كانت هذه المرأة تتميز بمواقف جريئة قل من المناضلين يمتلكون ذلك، ففي معظم الحالات الأجتماعية كانت الوجه إلى الوعي والمساعدة فكانت هذه السيدة صاحبة كرم لا حدود لها وتمتلك من الوعي قدراً كافياً لتخفف المصائب عن ما حولها وتساعد في إلمام الجروح , وفي المحافل كانت لديها القدرة على إقناع الحضور بالعمل الحزبي وعلى أن تأخذ المرأة دوراً فكانت لها نشاط مميز في الوسط النسائي , وعدا عن ذلك فهي صاحبة الوفاء لرفاقها ولا يمكن لي إلا ذكر ما هو يرجعني سنوات عديدة إلى الماضي كلما زرت هذه العائلة ويحرك مشاعري ويزيد من إحترامي لهم وهو تسمية ابن أخيها باسم الفقيد و المناضل عبد الحميد زيبار رحمه الله وذلك وفاءاً ومحبة للروح الرفاقية والنضالية , نعم سيرتك طويلة ومميزة بصمتها القدرة على التضحية والفداء وليس هناك شئ من غير ثمن فأولهما وحسب المفهوم الإجتماعي حرمت من تشكيل الأسرة وآخرها خسرت جزء من جسدك الذي تألمت به وتألم الكثير من المحبين , وهنا وفي الغربة وعندما سمعت على شاشات التلفاز خبر استشهاد المناضل مشعل التمو رحمه الله وإصابة الرفيقة القيادية في تيار المستقبل كان حدثاً مؤلماً ومؤثراً جداً، ولكنني قط لم أستغرب من تصرفك في الدفاع عن الرفيق وإبعاد الموت عنه حتى لو كنت البديل , لأنني أعرفك حق المعرفة أنت كتلة من قيم الوفاء والأخلاص , وأني آرى أسمك بين المناضلات الكرديات بحروف من ذهب , أنت من جربت العطاء مراراً دون السؤال عن المقابل , فما الحياة إلا بضع مواقف وهي فانية ولا خلود فيها إلا لمن صنع لشعبه صنيعاً يخلده مدى الدهر عدا ذلك يدفن وينتسى مع جفاف التراب في القبر , فصبراً على آلامك يا سيدتي ليس هناك شئ يذهب هدراً فالتاريخ يسجل ولا يرحم ونحن لا نطلب للنفس شئ بل كل الطموح أن يعيش الأجيال القادمة في حياة حرة كريمة”.
ربما تهدينا الحياة احياناً مواقف في غاية الانسانية واحياناً أشخاصاً رائعين، واحياناً قصصاً لا تشبهنا كثيراً تشبه ما عملنا لأجله وما استطعنا ان نحققه خلال حياتنا، وزاهيدا من النساء اللاواتي حصلن على قصة في غاية الحزن، لكنها من خلال هذه القصة التي خسرت من خلالها اهم شخصية سياسية وصديق حقيقي -انجزت شيئاً للتاريخ، من منا يستطيع في لحظة ما ان ينهي حياته من اجل حياة صديق دون اي تردد؟ في لحظة ما من حياتنا نستطيع ان نقول للعالم بأننا اناس مختلفون ، مختلفون لدرجة باننا نهب حياتنا من اجل فكرة ومن اجل صديق. شكرا لزاهيدة لانها استطاعت ان تجسد معنى الفداء بابهى صوره.
ليكسلي – السويد
29-9-2013
9-9-2013