قطبا الحياة يلتقيان
لم يسبق للمرأة أن كانت مسجونة، ومنهارة، ومستعمرة، وخامدة مثلما هي عليه الآن.
لم يسبق لها أن كانت بمثل ما هي عليه الآن من العبودية في عالم ألصقت نفسها به باسم ضرب من بديل للحرية التي يبدو وميضها.
كن مخدوعات في جميع العصور. ومازلن، مسحوقات أكثر من أي وقت مضى. وهن يحسسن بذلك، على الرغم من الهدايا المذهبة التي تُقدم إليهن.
نساء أيامنا هذه، أو النساء منذ بعض الزمن، هن الاستطاعة الخفية التي تقود العالم، سواء أكن عبدات بيوت الحريم أو الخدور، وعشيقات، أم زوجات أو أمهات أسر. فليس نظام الأبوة، ولو كان هادرًا، غير مزاح لطيف بالقياس إلى القوة الغامضة التي يتصف بها النوع الأنثوي.
إن المرأة تجد نفسها الآن برفقة الرجل في قعر واحد من حفرة وضيعة .
ذلك أن العمل “على شاكلة الذكر” ليس إلا ضربًا من ظاهر الحرية وليس هذا مخرجًا، وإنما هو باب جهنم.
كم كانتا كبيرتين فيما مضى سلطة المرأة واستطاعتها عندما كانت تمارس تأثيرًا خارج الحياة العامة! كان تد ّخلها يعدل أخطاء الذكور. كانت المرأة، وقد بقيت امرأة بصورة عميقة، تصغي وتقدر وتلاحظ وتنتظر، ثم تتعرض للأمر وتتدخل، وتصوغ قرار الرجل وتتعادل كفتا الميزان.
فالمرأة التي كانت ماهرة في حفظ نفاذ البصيرة المعصوم الذي يتصف به نوعها، كانت تحكم الممالك وبيوت الزوجية ولكن هذه القدرة التي لاقرار لها، قدرة المرأة، تلاشت أو تكاد تتلاشى. واختفت روعة المرأة التي كانت تتمتع بها فيما مضى.
أمن الممكن أن تفوز النساء، يومًا من الأيام، بحريتهن الداخلية، وبتحقيق ذواتهن، وبسعادتهن؟
لن يتسنى لهن أن يمنحن روحًا للأرض مجددًا ما دمن لم يستعدن روحهن، وقيمتهن الأساسية في الوقت نفسه.
إن المرأة السليمة الذكية ينبغي أن تكون حصان طروادة الجديد، الذي ينزلق داخل منظمات الذكور، ولكن دون أن تدع نفسها تتشوه بها .ذلك أن هؤلاء النساء ينبغي أن لايقعن ، وبأي ثمن، في الفخاخ التي جعلت من الرجال مصاصي دماء. وأن يعملن ضد الرجل أمر غير مطروح على بساط البحث إطلاًقا، وإنما ينبغي أن يعملن مع بعض منهم بهدف تجديد العالم الراهن وملايين الرجال يرغبون في ذلك.
تتميز المرأة عن الرجل بمساهمتها في خلق الحياة والإبداعية الداخلية والنضج السريع وقوة النفس ومواجهة قلق الحياة والموت وحس التدين والذكاء الإجمالي والوضوح النافذ والصبر والحس السليم والفهم الإنساني والوجود العميق والصبر. وبالمقابل يتميز الرجل عن المرأة بالتفوق حسب معطيات العصر المادي الحديث والإبداعية الخارجية والعدوانية المهنية والاستقرار داخل مهنة والمظهر الاجتماعي والذكاء المجرد.
وما النتيجة؟ المعركة مستمرة ما دام الناس يمنحون “قيمة أخلاقية “لمزايا كل جنس ولعوائقه.
إذا كان أساسيًا بالنسبة للمرأة أن تكون محبوبة وأن يرد اعتبارها، فإن ذلك ينبغي أن لا يكون لقاء انتحار داخلي، ولا أن تصبح نصف رجل، ولا أن ترد إلى امرأة طفل أو إلى جرادة عابرة. وعليها عندئذ أن لا تصغي إلى أحد، أن لا تصغي إلا إلى أصواتها الداخلية.
كل موجود إنساني يكابد الحاجة إلى أن يخّلف أثرًا. وهذه الإمكانية تتصف بأنها طبيعية لدى المرأة، يبحث عنها الرجل خلال أي شيء. إنه يتمنى أن ينمي في ذاته شيئًا ما يكون على صورته. بيد أن هذه الأشياء نسخ ميتة دائمًا. كان الرجل فيما مضى على توافق مع الطبيعة والأشياء، ومع عمله وحروبه. وهو في أيامنا هذه يحاول بمشقة وقد تحول إلى رقم أن يتعلق ببدائله الهزيلة، بدائل القوة.
أبداً لن يفهم الرجل، الذي لم يزود بالبطن الخلاق، إلى أي مدى تغوص نفس المرأة في الواقع العميق، واقع الأشياء والموجودات. فقوة المرأة ناجمة عن أنها، وحدها، هي القادرة على الإحساس بقوى الحياة.
ثمة بعض أصحاب الامتياز: إنهم الفنانون الذين يخّلفون آثارًا وجدانية.
غير أن هناك جملة الرجال الذي “يبنون” ويغزون المجهول كيما يعوضوا عن استحالة الخلق بصورة حقيقية. إنهم بناة المدن العابرة التي تبتلعها الصحارى.
والرجال يبيدون الأحياء إذ يغزون. فبأي شيء يضايقهم ذلك؟ يضايقهم أنهم لم يخلقوا حياة، وابتعدوا في الوقت نفسه عن الطبيعة، وهذا هو السبب الذي من أجله قد تتوقف الحروب لو أن العالم كان تحت سيادة نساء هن نساء على نحو كلي. فكيف يمكن لهن إفناء الحياة وهن يخلقن الحياة؟
ولكي تتخلص المرأة من هذه الخدعة، خدعة الدونية، يمكن أن نقول ونتمنى:
- أن لا ترعى ضروبًا غير موجودة من الدونية أو التفوق، بل أن تبقى منتبهة لعوائق الرجل و لمزاياها.
- أن تعلم إلى أي حد يتصف الرجل بأنه ثلوم بدونها وأعزل و أن تصل من ذلك إلى أن تقدر نفسها حق قدرها.
- أن تعلم أن أقل عطف فاعل أقوى من ألف معركة ومئة ألف فكرة، فإذا لم يكن ثمة نساء، إلى من سيتضرع المحارب الجريح؟
- أن تفهم أن اختفاء المرأة يعني زوال العالم.
- أن تفعل كل شيء لتحتفظ بصحوة الشاهد. فالمرء لا يرى وكر النمل إذا أصبح نملة. وكيف للمرأة أن تحتفظ بذبذبتها الخاصة وهي سجينة تشارك في صنع الاسمنت الحديث؟
- أن تتمنى أن ينزلق العالم من القوة نحو العقل، ومن الكم نحو الكيف، ومن المظهر نحو الماهية.
- أن ترفض أخيرًا أن تستمع إلى أولئك الذين ينادون بإلغاء ما تختلف به عن الرجل، فمثل هذا الإلغاء متعذر من جهة، وهذه الفروق، من جهة أخرى، مزية بالنسبة إليها وثروة بالنسبة إلى العالم في الوقت نفسه. إن عليها، على العكس، أن تجعل هذه الفروق الأساسية أصيلة وتعمقها، وأن ترجع إلى أصل أنوثتها التي تتصف بأنها قوة وذكاء
عميق وحكمة ورحمة، ولكي يصبح الذكر رجًلا والأنثى امرأة، لا بد إذن من أن يتصف كل منهما “بشيء من الآخر”.
والحال أننا نعلم منذ زمن بعيد أن ً كلاً منهما يحمل في ذاته بعض خصائص (وبعض هرمونات) “الجنس الآخر”.
يقال :المرأة حدسية، والرجل منطقي.
ينبغي القول :الأنوثة، أيا كان الجنس، حدسية، إنها تحس بالأشياء على نحو لا متمايز
والذكورة منطقية، إنها تصطفي الإحساسات التي نتلقاها، ثم تلجأ إلى المحاكمة منتقلة من نقطة إلى أخرى بصورة شعورية.
يقال :المرأة تستشعر، والرجل يحاكم.
ينبغي القول :الأنوثة تستشعر، والذكورة تحاكم، وذلك أمر صحيح بالنسبة إلى كل موجود إنساني، أيا كان جنسه.
يقال :المرأة تنظر إلى الحياة بصورة تختلف عن الرجل.
ينبغي القول :الأنوثة مستقرة وساكنة. وهي شبيهة بالماء العميق .إنها تكون حياتنا الداخلية كلها. وتحس بالحياة كما هي، بطريقة مشخصة، مباشرة وعملية ودون مواربة. والذكورة، التي تتصف بأنها في حركة غير مستقرة كالسهم، تشعر بالحاجة إلى أن تجهز نظريات وضروبًا من الأخلاق.
وبما أن الأنوثة لدى المرأة أكثر اتساعًا، فمن المؤكد أنها تحس بالحياة على نحو يختلف عن الرجل.
يقال :الرجال لن يفهموا النساء أبدًا (أليس من المستغرب أن الناس قلما يؤكدون العكس؟
وينبغي أن يقال: لا يمكن فهم الأنوثة بصورة عقلانية، إذ أنها لامتمايزة، وليس بالإمكان سوى أن تستشعرها من خلال الإحساس والحدس، ولكن لا من خلال العقل والمنطق أبدًا. ولن يستشعر الرجل امرأة على الإطلاق ما دام لم يحقق أنوثته الخاصة. كذلك فإن
المرأة لا يمكنها أن تفهم ذكورة الرجل ما دامت لم تنجز ذكورتها الخاصة. وذلك يثير صعوبة من الصعوبات .ذلك أن النساء السويات (أنوثتهن وذكورتهن سويتان) يفهمن بصعوبة معظم الرجال الحديثين الذين ينهمكون في الصراع من أجل أفكار مجردة، أكثر مما ينهمكون في الصراع من أجل وقائع إنسانية و مّشخصة.
الرجل يرى العالم، على الغالب، جملة وببرود، ودون أن تتدخل عواطفه الشخصية. وتلك هي السياسة المجردة واللاشخصية.
المرأة ترى العالم، على الغالب، على أنه مجموعة من الأسر ، هي صديقتها أو على خلاف معها، تحبها أو لا تحبها. إنها سياسة العاطفة الشخصية.
ولا يعني هذا أن المرأة لا تبالي بأمور العالم، بل إنها لا “تتعاطى” الأحاديث العظيمة التي يسقطها الرجل في أغلب الأحيان على المستقبل.
قالت إحدى النساء لي: نحن ، معشر النساء، نبحث دائمًا عن الماهية خلف المظاهر.
هنا إنما نجد الهوة الكبيرة التي تفصل بين الجنسين .فالرجل يتوحد بما يصنع، لا بما هو عليه، والمرأة جماعية وشيوعية. ولكن بمعنى أنها تتمنى لو تحول العالم برمته إلى أسرة.
والمرأة محافظة: إنها يمينية بعمق، إنها حافظت على جذورها.
وجذر هذه المواقف موجود في الطفولة:
فالصبي نزاع بطبيعته ذاتها إلى أن يهجر أسرته وأن يهرب منها لا بفعل الميل إلى الاكتشاف فحسب بل إن هذه الأسرة تذكره بعدمه الأصيل كذلك.
أما البنت فإنها نزاعة ولو أنها مولعة بالحرية، أن تبقى في الجو الأسري، أو أن تعود إليه: مكان مغلق ودافئ، أضيفت عليه الداخلية. فالمرأة على هذا النحو تنتمي إلى الجماعة.
إنها تتصف بأنها سياسية ، أي حذرة، أمومية، تدير كل الأمور بوصفها أم أسرة
الرجل لا يتصرف من أجل الحاضر. يسقط أفكاره على المستقبل. يريد الانفلات من الحاضر.المرأة تتصرف من أجل الحاضر. لا تنظر إلى المستقبل إلا عندما يكون الحاضر منظمًا. تعيش بقوة في الحاضر.
فإذا أحست امرأة أن عملها عمل غير شخصي، ومجرد ، فرت
في أول مناسبة تسنح لها. وحتى المرأة التي تجاوزت نزعتها الغريزية، فلا تخرج من ذاتها، ولا
من بيتها ، بحاجة إلى أن تضفي الصفة الشخصية على حياتها.
والمرأة لاتفصل بين شخصها وبين شغلها. وهي بحاجة إلى أن تعمل مع أناس تحبهم، إن هذا الشغل يتحول، إلى جمعية أسرية. ويصبح المشروع بيتها، والمكتب غرفة الجلوس لديها.
السعادة المستقرة والوجود العميق هما وطنا المرأة.
…….. وللحديث بقية.