Search
Close this search box.

امرأة غامضة

امرأة غامضة

مصطفى تاج الدين الموسى*

قصة قصيرة

مئات الوجوه بذات الملامح متناثرة في هذه الشوارع والحدائق، على الأرصفة وداخل وسائل النقل بشكلٍ فوضوي… لا شيء يميزهم عن بعضهم، وكأنّهم كائنٌ واحد بنسخٍ كثيرة.

كدتُ اختنق وأنا أمشي وأتأمّل هذه الوجوه البشرية التي ضاعتْ ملامحها في ازدحام هذا اليوم الصيفي الحار… هربتُ منها لأدخل هذا المقهى, رميتُ بجسدي على كرسي وأنا أتنفس الصعداء، وأشتُم في سري وجوه البشر، ثمَّ طلبتُ من النادل زجاجة عصير.

لكأسين من ماءٍ وعصير وأنا أرمق ذبابةً كسولة كانت تتمشى على سطح طاولتي، بدتْ لي ملامحها واضحة.

شهقتُ وأنا أشاهد امرأةً جميلة تدخل المقهى لتجلس إلى طاولةٍ قريبة، تأملتها مذهولاً, لم يسبق لي أن شاهدتُ أجمل منها في حياتي، فعلاً جمالها نادر مع ابتسامتها الساحرة والغامضة، والمرسومة بشكلٍ إلهي بارع على ملامحها.

غيرتُ من هيئة جلوسي على الكرسي، ثمَّ قمتُ بعدة محاولات صامتة للفت انتباهها، استغربتُ منها، كانت مشغولة بالنظر وبإعجاب إلى جاري على طاولةٍ عن يساري.

كانت ترمقه بعينيها اللتين تنضحان شهوةً وحباً.

يا إلهي ما الذي أعجبها بهذا البدين البشع؟!. هل راقتْ لها صلعته، شيء غريب!. قد لا أكون جميلاً كنجمٍ سينمائي لكنني على الأقل أجمل من هذا الأصلع بكثير، أمرها غامض هذه الجميلة، لنصف ساعة وهي ترمقه دون أن يكترث لها، عليه اللعنة كم هو بليد!.. أما أنا فكنت قد يئستُ تماماً من جعلها تنتبه لي.

من شمالها حتى جنوبها ولألف مرّة تأملتُ بهدوءٍ تفاصيل جمالها الأنثوي، وروحي ترقص على جسدها.

همستُ في سري: (أنا مستعد لأن أخسر حياتي مقابل أن أنام معها ليلة واحدة).

فجأةً نهضتْ عن كرسيها ومشتْ نحو جاري البدين, يا إلهي كم هي جريئة!. تلك الشهوة في عينيها كانت تشتعل ناراً، عليه اللعنة… سريره سيربحها هذه الليلة.

عندما وصلتْ انحنتْ إليه لتقترب بوجهها من وجهه، هذا كثير … أيٌّ حظٍ عظيم يملكه هذا الحقير، وضعتْ شفتيها على شفتيه ثمَّ قبلته قبلة طويلة، تمنيتُ بغيظٍ لو أنّني أرمي به إلى الشارع، أجمل امرأة في العالم تقبل أبشع رجلٍ في العالم دون سبب مقنع … خيّل لي أنه ــ على إثر قبلتها ــ سوف يتحول إلى أمير, كما حدث في تلك الحكاية القديمة عندما تقبّل فيها الحسناء ذلك الوحش.

كانت شفتاها الجميلتان لا تزالان معلّقتين بشفتيه عندما مال جسده عن كرسيه ليسقط ويتكوم على الأرض، معه حق أن يغمى عليه… لا يمكن لأيّ رجلٍ أن يحتمل مثل هذه القبلة العذبة.

أسرع إليه النادل وصاحب المقهى وبعض الرواد ثمَّ انحنوا عليه، بينما هي تنسل من بينهم لتمشي بهدوئها الغريب حتى الباب، حيث استدارتْ لتنظر إلى جاري المغمى عليه وتودعه بابتسامةٍ باردة، ثمَّ خرجتْ… لم أفهم سرّ ابتسامتها الباردة.

قال أحد الذين انحنوا على جسد جاري، وهيئته تدل على أنه طبيب:

ـــ يبدو أنه قد أصيب بأزمة قلبيّة حادة… لقد مات…

علا الكلام والصراخ حول الجثمان البدين، أسرعتُ وأخبرتُ صاحب المقهى بأنه من الممكن أن تكون تلك المرأة قد قتلته.

قال لي مندهشاً في ازدحام الفوضى البشرية حول الجثة:

ـــ لا يوجد على جسد المتوفّى أثار طعنة أو طلقة…

زفرتُ بحنق ثمَّ خرجتُ من المقهى، وظللتُ لساعات أمشي على الأرصفة بين البشر الذين لا ملامح لهم، شعرتُ بالجوع فدخلتُ مطعماً متواضعاً.

جلستُ إلى طاولة وطلبتُ طعاماً وشراباً، كادتْ كأس الماء أن تسقط من بين أصابعي، شهقتُ وأنا أشاهد المرأة الجميلة ذاتها التي صادفتها اليوم في المقهى، تدخل هذا المطعم لتجلس إلى طاولةٍ أمامي.

أخيراً انتبهتْ لي هذه الفاتنة, ابتسمتُ لها بخبث فابتسمتْ لي بخبث, غمزتها بلطف فغمزتني بلطف, لعقتُ شفتي السفلى فلعقتْ شفتها السفلى.

ما أجملها !. هذه المرة لن أخسرها، هذه الليلة سوف أربح سرّها وأربح جسدها.

همستُ للنادل وهو يميل إليّ:

ـــ اجلبْ زجاجة نبيذ من النوع الفاخر، وقدمه لتلك السيدة على حسابي…

تلفّت النادل حوله قليلاً، ثمَّ سألني مستغرباً:

ـــ عن أي سيدة تتحدث ؟

ـــ هذه السيدة التي تجلس أمامي تماماً…

ونظر إلى حيث أشرتُ له بسبابتي، أخفى ابتسامته خلف أصابعه وتمتم لي:

ـــ على هذه الطاولة لا يوجد أحد… إنها فارغة يا سيدي…

ثمَّ ذهب وهو يهزّ برأسه.

لم أفهم شيئاً، بينما هذه المرأة الجميلة تنهض عن كرسيها لتمشي بهدوء إليّ, وفي عينيها شهوة عارمة لاستباحة ملامحي.

عندئذٍ، ثمّة ذبابة كانت تتمشى على طاولتي, طارتْ بعيداً عن هنا.

* قاص سوري

اللوحة للفنان العالمي بيكاسو

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »