بيان ريحان
“لم أستطع منعهما، صحيح أنها ابنتي، لكنهما عمها وجدها، عمها الذي لم ينفق عليها منذ وفاة والدها وجدها الذي تركني وحدي مع أطفالي الأربعة الصغار، تجاهلا واجباتهما تجاهنا، واليوم جاءا ليفرضا سلطتهما ويأخذا نور معهما بعيداً”.
هكذا ختمت أم أحمد حديثها معي بعد أن أنهينا جلستنا التدريبية عن العنف القائم على النوع الاجتماعي، التي عُقدت في أحد المراكز النسائية في جبل الزاوية.
أم أحمد سيدة لم تتجاوز الحادية والثلاثين من عمرها، من إحدى ضيع جبل الزاوية، تزوجت وهي في عمر الرابعة عشرة، أخرجها أهلها من المدرسة رغم حبها وشغفها لمتابعة تعليمها لتصبح أم لأربعة أطفال حاولت من خلالهم أن تبني أحلامها التي حرمت منها. لكن وفاة زوجها في الثورة السورية بإحدى غارات الطيران على الضيعة جعلتها في مواجهة الحياة بعد تخلي الجميع عنها، ليس بيدها حرفة لتتكسب منها ولا شهادة تعليمية لتتوظف بها، فقط أربعة أطفال جياع ولديهم احتياجاتهم. وقد تخلى عنها الجميع لكبر حملها، فلم تجد إلا استجداء المنظمات الإغاثية التي تكاثرت في الثورة السورية،
فكانت تحصل على ما تسد به رمق أطفالها دون أن تسأل أحداً وأدخلت أطفالها المدرسة، محاولة دعمهم بكل طاقتها ليغيروا من واقعها المرير بعد أن يكبروا.
وأرادت أن تطور من نفسها فبدأت بالالتحاق بالمراكز النسائية التي وجدت في المنطقة، والتي كانت تدعم مشاريع المرأة فكانت تحضر أغلب الندوات التي تقام وتكتسب المعلومات، وبدأت تتعلم مهنة الحلاقة النسائية لتساعدها في زيادة مدخولها. رأيتها في أكثر من ندوة أقمتها هناك، كانت تحرص على الحضور وعدم الغياب، تناقش، تسأل وتحاول أن تثبت نفسها التي وجدتها بعد كل ما مرت به.
ابنتها نور أصبحت في الرابعة عشرة وها هي على مشارف الدخول في الصف التاسع، كانت جميلة الشكل متفوقة في دراستها ومساعدة لأمها في تحمل مسؤولية اخوتها، وأيضاً كانت ترافقها في حضور الندوات النسائية. وخلال ذلك لفتت انتباه ابن عمها، الذي لم يبلغ العشرين من عمره، فطلب من أبيه تزويجه إياها، وسأل جده، الذي بارك الزواج وبزيارة مفاجئة لأم أحمد حضر الجد والعم وطلبا يد نور للزواج من ابن عمها.
فكان جواب أم أحمد الرفض معللة ذلك بأنها تريد استكمال تعليم ابنتها وأنها مازالت صغيرة، فقال لها والد زوجها: ” كنت في مثل عمر نور عندما تزوجت ونور لم تعد صغيرة”، ليضيف شقيق زوجها: “ابن عمها أولى بها، دعوه يتردد عليكم أفضل من بقائكم لوحدكم”. هنا انتفضت أم أحمد في وجههما قائلة: “أين كنتم من ثلاث سنوات عندما استشهد أبو أحمد، لم تسألوا عنا أبداً، والآن تريدون البنت، لن تأخذوها”. فنهرها عمها وأخبرها أن الزواج قائم سواء رضيت أم رفضت وإلا سينشر عنها كلام سيء في الضيعة، وتحت الضغط اضطرت أم أحمد للاستسلام والموافقة فهي أضعف من أن تقاوم مجتمعاً بأكمله.
في تلك الجلسة التي كانت بمناسبة حملة الـ”16″، التي أطلقتها الأمم المتحدة لمناهضة العنف ضد المرأة، أقمنا ندوة نسائية في مركز نسائي في جبل الزاوية حضرتها أم أحمد ولكنها على غير عادتها كانت ساكنة، هادئة يبدو على ملامحها التعب.
في الندوة طرحنا أهم المشاكل التي تتعرض لها النساء في المنطقة وحاولنا تناول الحلول المقترحة والتي من الممكن أن تساعد النساء وتحدثنا عن حقوق المرأة واذ بأم أحمد تنتفض وتخرج عن صمتها لتقول لنا أنها لم تتمكن من حماية ابنتها ولم يساعدها أحد في ذلك وكل المراكز النسائية التي انتشرت لا تمتلك حلولاً لمشكلتها، وابنتها ستواجه نفس مصير أمها في الحياة.
حاولت تهدئتها وفهم ما يحدث فبدأت تتحدث عن المضايقات التي تعرضت لها منذ وفاة زوجها من تملص الجميع من مساعدتها إلى استغلال بعض الرجال الجشعين القائمين على المنظمات الاغاثية وعن حالات التحرش بها التي اضطرت أن تبقى صامتة كي لا تتعرض لنظرات الاتهام من الجميع.
كلمات أم أحمد كان لها الأثر الكبير على الجميع إذ بدأت النساء الأخريات تشارك أم أحمد أوجاعها، فهذه التي طردت من منزل عائلة زوجها بعد استشهاده، وتلك التي حُرمت من مساعدات المنظمات الاغاثية لأنها فضحت أحد عامليها الذي تحرش بها فعوقبت على ذلك، وما إلى ذلك.
بالتعاون مع مديرة المركز ناقشنا السيدات بمشاكلهن وحاولنا إيجاد حلول واقعية لها، لكن هناك عجز كبير، فهذه الحلول كلها تحتاج إلى جهود منظمة ومتكاملة للمنظمات الإنسانية والاغاثية لتسطيع فعلاً إحداث تغيير جذري في المجتمع.
أم أحمد ليست الوحيدة التي عانت من تسلط رجل العائلة على عائلتها بل هناك العديد من السيدات، بالإضافة إلى نساء تعرضن للابتزاز من مدرائهن بالعمل وزملائهن.
وعلى الرغم من جميع الجهود التي بذلتها مراكز دعم وتمكين المرأة ومكاتب المرأة في المجالس المحلية، إلا أن واقع المرأة السورية لم يتغير بشكل كبير في بعض مناطق سوريا، بل تراجع، ومن خلال تجربتي الشخصية في تمكين المرأة ورئاسة مكتب المرأة في المجلس المحلي لمدينة دوما أستطيع أن أقول أن المشكلة الأساسية هي في تشتت جهود المنظمات وعدم التنسيق، الأمر الذي أدى إلى القيام بمشاريع غير مجدية للمرأة وتكرار المشاريع وتلخيص الأنشطة أحياناً ببعض التدريبات والحلول النظرية البعيدة عن واقع نساءنا.
أم أحمد السيدة التي تعرضت للعنف طوال حياتها، هناك الكثير من شبيهاتها اللواتي لجأن لهذه المراكز واستطعن الاستفادة منها في تغيير حياتهن نحو الأفضل، لكن هذا التغيير الإيجابي زال بمجرد قرار صدر من كبير العائلة، أعتقد لو أن هناك من قدم لها الدعم اللازم اجتماعياً ومادياً لاستطاعت أن تحمي ابنتها.
اللوحة للفنان: بهرام حاجو
خاص “شبكة المرأة السورية”