نبال زيتونة
شهدت مرحلة الثمانينات اهتماماً ملحوظاً بقضايا المرأة، وتصاعدت حركاتٌ تدفع باتّجاه رفع وتيرة الاهتمام بحقوق النساء على المستويين الدوليّ والعالميّ، حيث أصبحت المرأة والأسرة محورين أساسيين من محاور عمل هذه التجمعات والفعاليات، كما لدى الكثير من المنظمات التي ترفع لواء الحريّة والمساواة وحقوق الإنسان، القائم أصلاً على مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، حيث يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولكلّ إنسان حقّ التمتّع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دون أيّ تمييز على خلفيّة العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين.
ولعلّ مرحلة الثمانينات هذه، استمدت زخمها من إجماع شبه عالمي على جعل الإطار العام للعمل من أجل النهوض بقضايا المرأة، هو حقوق الإنسان، وربط حقوق المرأة في الأسرة والمجتمع بحقوق الإنسان عامةً، بدءاً من التمييز وعدم المساواة، مروراً بمناهضة العنف ضدّها، وليس انتهاءً بتمكينها على الصعد السياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
هذه التوسعة في المفاهيم، كان لا بدّ لها من شبكات تحالفات وفعاليّاتٍ، تحرث في التربة المحسّنة لرفع مستوى الوعي، ضمن إطار عمل حقوق الإنسان.
ففي عام 1975 أعلنت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عقد الثمانينات “عقداً المرأة” وذلك في المكسيك، وفي عام 1980، عُقد المؤتمر العالميّ الثاني لعقد الأمم المتحدة للمرأة تحت عنوان “المساواة والتنمية والسلم” في كوبنهاجن بالدانمارك.
أمّا المساواة هنا فلا تعني فقط المساواة القانونية والقضاء على التمييز القانوني، بل تتّسع لتشمل أيضاً المساواة في الحقوق والمسؤوليات والفرص المتعلقة باشتراك المرأة في التنمية، بوصفها مستفيدة وبوصفها فاعلة ونشطة على حد سواء. وتحقيق المساواة يستلزم التكافؤ في فرص الحصول على الموارد، وسلطة الاشتراك على قدم المساواة وبفاعلية في توزيعها، وفي اتخاذ القرارات على مختلف المستويات. ومن ثَمَّ يجب التسليم بأن تحقيق المساواة للنساء اللاتي طالما تضرَّرن بفعل التمييز، قد يتطلب القيام بأنشطة تعويضية لتصحيح المظالم المتراكمة.
خرج المؤتمر ببرنامج عمل لاتّخاذ تدابير أقوى لضمان حقّ ملكيّة المرأة، والميراث وحضانة الأطفال والجنسيّة. كما ركّز على ضرورة إزالة العقبات بشكل كامل، تلك التي تعترض تحقيق المساواة بالنسبة للمرأة، التي تفرزها القوالب النمطية الجامدة، والتصورات والمواقف المسبقة تجاه المرأة، والعمل على إزالة هذه الحواجز بسنِّ تشريعات ملزمة، ونشر الوعي والثقافة بهذا الخصوص، من خلال القنوات الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية ومنابر الأحزاب السياسية والعمل التنفيذي على أرض الواقع.
أمّا حجم المشاركة في هذا المؤتمر، فقد كان لافتاً قياساً بسابقه، حيث زادت عن 2000 مندوب يمثلون 145 دولة عضواً في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
وبعد خمسة أعوام أخرى (عام 1985)، عقد المؤتمر الثالث المعنيّ بالمرأة في نيروبي بكينيا، وكان تحت عنوان “الاستراتيجيّة التطلّعيّة في قضيّة المرأة”، وذلك لتقييم المنجزات في المساواة والتنمية والسلام، في وقتٍ كانت الحركة من أجل المساواة بين الجنسين قد اكتسبت اعترافاً عالمياً بمشاركة 15 ألف ممثلٍ عن المنظمات غير الحكوميّة في منتدىً موازٍ. وقد عُدّ هذا الحدث “ولادة الحركة النسويّة العالميّة”.
وكان من أهم نتائج مؤتمر نيروبي تحويل صندوق التبرعات لعقد الأمم المتحدة للمرأة إلى هيئة الأمم المتحدة للمرأة، حيث يقدِّم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة بوصفه هيئةً مستقلّة، متشاركة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ، يقدِّم الدعم المباشر لتنمية المرأة ومشاريع التمكين في كافة أنحاء العالم.
وفي عام 1995، عقد مؤتمر بكين، وهو المؤتمر العالمي الرابع حول النساء، الذي أكّد منهاج عمل حقوق المرأة وحقوق الإنسان، والتزم باتّخاذ إجراءات محدّدة لضمان احترام هذه الحقوق.
وكان الحديث عن مساواة المرأة بالرجل بشكل موسع، في أكثر فصول هذا المؤتمر ومباحثه الفرعية، بل وتصدّرت هذه القضيّة الفصل الأول منه، وكان العنوان “بيان المهمة”.
وتصدّر منهاجَ العمل، جدولُ أعمال لتمكين المرأة، يهدف إلى التعجيل بتنفيذ استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة، وإزالة جميع العوائق التي تحول دون مشاركة المرأة مشاركة فعالة في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة، الاجتماعية منها والثقافية والسياسية، ما يعني أيضاً إقرار مبدأ تقاسم السلطة والمسؤولية بين المرأة والرجل في البيت، وفي مواقع العمل، وفي المجتمعات الوطنية والدولية بصورتها الأعم والأشمل.
وكان الحدث الأبرز في هذا المؤتمر، التركيز على مفهوم الجنس، حيث لا بدّ من إعادة تقييم بنية المجتمع بأكمله، وإعادة هيكلة المؤسّسات المجتمعيّة لجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تشاركيّة في جميع مناحي الحياة. والإقرار فعلاً وليس قولاً، بأن حقوق المرأة هي من صلب حقوق الإنسان عملاً وتشريعاتٍ وقوانيناً.
تمخّض المؤتمر عن إعلان أجندة عمل، تتضمّن التزام المجتمع الدولي بتقديم الدعم لتمكين النساء، وإزالة العقبات أمام مشاركتهن الكاملة في المجالين العام والخاص، وكان أهم أهدافها: حماية حقوق المرأة كإنسان، بإزالة جميع أشكال التمييز ضدّها بموجب القوانين والممارسة العمليّة. وتتحمّل الحكومات المسؤولية الأولى، ويترك الباب مفتوحاً لمشاركة المؤسسات والأشخاص باتخاذ تدابير وإجراءات لتحسين أوضاع النساء وحياتهن.
وعلى الرغم من أن إعلان بكين وأجندة عمله ليسا ملزِمين قانونيّاً، إلا أنهما يحملان في طيّاتهما جانباً أخلاقيّاً وسياسيّاً يمكن البناء عليه في أسوأ الأحوال، والمعاهدة ملزمة لجميع الموقّعين عليها.
الأكثر وضوحاً في نتائج مؤتمر بكين وأجندة العمل، هو الدمج الناجح بين حقوق المرأة في السياسات والحقوق الإنسانيّة في إطارها الأشمل والأعمّ.
يُضاف إلى تلك المؤتمرات المعنيّة بالمرأة، مؤتمراتٌ خاصة بقضايا لها صلة بالمرأة، مثل: مؤتمر الطفل في نيويورك عام 1990، مؤتمر البيئة والتنمية في ريودي جانيرو عام 1992، مؤتمر حقوق الإنسان في فيينا عام 1993، مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة عام 1994، مؤتمر التنمية الاجتماعية في كوبنهاغن عام 1995، مؤتمر اسطنبول للمستوطنات البشرية عام 1996، ومؤتمر الإنسان والثقافة في استوكهولم عام 1998.
وقد كانت المحاور الأساسيّة لكلّ تلك المؤتمرات: المساواة المطلقة بين المرأة والرجل بعيداً عمّا تقرّه الشرائع الدينيّة، التنفير من الزواج المبكر، تحديد النسل، السماح بالإجهاض الآمن، التركيز على التعليم المختلط، تقديم الثقافة الجنسية بدءاً من سنّ مبكرة، وإلغاء قوامة الرجال على النساء. كما ركّزت على حثّ الحكومات لفتح باب المشاركة الكاملة للمرأة في الأعمال التي كانت حكراً على الرجال، تخفيف الأعباء على المرأة داخل المنزل، وتشجيع الرجل على المشاركة في الأعمال المنزليّة ورعاية الأطفال.
وكانت عمليّة وضع أجندة أيّ اتفاقيّة، تتمّ على عدّة مراحل، تبدأ بتسليط الضوء عليها عن طريق وسائل الإعلام، وإثارة الاهتمام بهذه القضية في مختلف بلدان العالم، لتكون المرحلة الثانية مرحلة صياغة قواعد كونيّة تحكم السلوك البشريّ والعالم في مختلف مجالات الحياة: الاجتماعيّة، والثقافية والسياسية عبر المؤتمرات الدولية للخروج بمواثيق واتفاقيات ملزمة للبلدان التي تصادق عليها. ويبدأ بعد ذلك الضغط على الدول التي لم تصادق عليها لحثّها على المصادقة، والعمل على رفع تحفّظات بعض الدول على بعض البنود الواردة فيها.
ورغم كلّ تلك الإجراءات مازالت حكومات بعض البلدان تحاول النأي بنفسها عن العديد من هذه الاتفاقيات والقرارات، إما لأنها تلامس بنية الحكم الديكتاتوريّ فيها، بسبب ربط قضيّة المرأة بحقوق الإنسان، أو بسبب التشريعات الدينيّة التي يرفض القائمون عليها المساس بما يعتبرونه “المقدّس”!
بالتوازي مع مجلة “سيدة سوريا”