بشار عبود
كثيراً ما كنت أقول لأصدقائي السعوديين عندما كنت أعمل في جريدة عكاظ، إن تدفق الأعمال الأدبية السعودية بهذا الشكل الغزير، سيغيّر قريباً فكرة المتن والهامش في الثقافة العربية، إذ لا يمكن تجاوز الضخ المهول في الإنتاج على مستوى الإبداع الأدبي بأنواعه المختلفة، وتحديداً في الشعر والرواية والقصة القصيرة، والتي أصبحت جزءاً مهماً من متن الثقافة العربية وجزءاً مهماً كذلك من آمالها وأوجاعها. فقد تحولت هذه الإبداعات لتصبح منافساً قوياً في الحصول على الكثير من الجوائز الأدبية التي تتوجت بأسماء سعودية، لا يمكن تخطيها على مستوى الأدب العربي ككل، ويحضرني على سبيل المثال الشاعر الكبير محمد العلي، والشاعر الراحل محمد الثبيتي، والروائي تركي الحمد، عبده خال، رجاء عالم، ليلى العثمان، أميمية الخميس ميساء خواجة، فوزية أبو خالد، ثريا العريض، نورة السعد، خولة الكريع.. والكثير غيرهم من الكتاب والأدباء السابقين والمعاصرين.
وفي مجتمع مثل السعودية، تميزه القيود الدينية المتشددة، لا يمكن الحديث عن النتاجات الأدبية في هذا البلد، بمعزل عن المرأة، ليس فقط على مستوى حضورها في الأدب، كقضية مهمة للنقاش والبحث والاستشراف حول مستقبلها، حيث تشكل المرأة محوراً أساسياً في معظم (إن لم يكن جميع) الأعمال الأدبية، وإنما أيضاً على مستوى الإبداع نفسه، حيث برزت العديد من أسماء الكاتبات التي لمعت في الأدب العربي ككل، وليس آخرها أميمة الخميس، التي دخلت روايتها “الوارفة” ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر، والتي فاز بها الكاتب السعودي عبده خال في نفس العام.
لكن يبقى السؤال الأهم الآن، وهو: إلى أي مدى يسهم تدفق الأعمال الأدبية التي تتناول المرأة، في إثبات حضورها في خضم الحياة العامة للمجتمع السعودي؟ خاصة وأنها (المرأة) تعتبر جزءاً أساسياً وملحاً وقوياً في الخطاب الأدبي، بغض النظر عن كيفية المعالجة أو الهدف من المعالجة، وهو ما يعكسه وعي الكاتب أو الكاتبة تجاه مآلات حضور نصف المجتمع في المشهد العام للحياة داخل المجتمع السعودي.
يعكس حضور المرأة في الأدب السعودي بهذا الشكل الطاغي، إشكالية حقيقية تتمثل في ابتعادها شبه التام عن المشاركة في الحياة العامة، وهذا الثراء في الحضور بين دفات الكتب، ما هو إلا التفاف “فن الممكن” الذي يمكن أن يغطي غيابها عن مسرح الحياة الحقيقية. وكون الأدب يشكل في مجمله صورة عاكسة للمجتمع، ويعبر عن وعيه، فقد برزت أعمال أدبية روائية وقصصية وشعرية كثيرة لكاتبات وكتاب سعوديين، توحي بهذا التململ من الإقصاء المعنوي والمادي للمرأة، لكنها في الوقت ذاته لم تعمل، إلى الآن، على رفع سقف مشاركة المرأة في الحياة العامة والثقافية إلى الأعلى، أو حتى على تغيير نمط حياتها بما يوحي بتأثير الأدب على مجمل الوعي العام في البلد.
أيضاً، هذا التسارع الكمي والكيفي للأدب السعودي، في ظل غياب فنون أخرى كالمسرح والسينما، لم يصل بعد إلى مرحلة تحريض المرأة على قيامها بالكفاح الحقيقي من أجل بلورة التغيير والانتصار لإنسانة تهمّشها تقاليد هائلة لمجتمع لا يريد أن يعترف بالتغيير، لذلك فإن قيام مثل هذه المعركة يعني أنها ستكون ثورة كبرى داخل المجتمع ككل وليس ضد جهة واحدة فقط، فالمرأة هي السلاح الأول للحرب، كما أنها الضحية الأولى التي يجب أن تسقط عليها كل المحرمات.
وربما لا نجافي الحقيقة إن قلنا بأنه على العكس تماماً، ربما شكل هذا التسارع الكمي والكيفي للأدب السعودي، حالة من ردة فعل حولها، بشكل يعيد، وباستمرار، المجتمع السعودي إلى مربعه الأول، خصوصاً وأن تأثير خطاب الجامع على وعي الناس أكثر بكثير من كل الأعمال الأدبية التي يمكن أن تصدر، إذ يتصيد الخطاب الديني أي عمل روائي خارج السياق، ليتم اتهامه على الملأ بأن كاتبه أو كاتبته زنادقة وكفرة وملاحدة.. وغيرها من الأوصاف التي تحرض المجتمع على محاربته. وهذا ما حدث على سبيل المثال، مع رجاء الصانع في روايتها “بنات الرياض”، التي خاضت حتى النخاع في التابو المحرم للمجتمع السعودي والمبني أساساً على العلاقات الجنسية بين شخصيات الرواية من الشباب والشابات، ولكن في الوقت نفسه، قد يكون هذا ما يفسر أيضاً الإقبال غير المسبوق على قراءة هذا العمل، كونه أحد أكثر الروايات التي تجرأت كاتبتها على ما لم يتجرأ عليه أقرانها الأدباء خلال مسيرتهم في الكتابة.
أثارت “بنات الرياض” الكثير من الجدل حولها، وطالت كاتبتها لعنات لا تحد ولا تحصى على منابر المساجد وفي وسائل التواصل الاجتماعي، كما تم اختراق إيميلات الكاتبة ومواقعها وروقبت من جهات دينية عدة، وهُدّدت بالاغتيال، وكادت تحرم مواصلة إكمال دراستها في طب الأسنان، والسبب كله أنها كتبت رواية! ولنا أن نتخيل حجم المعركة داخل المجتمع إذا ما أُفسح المجال أمام حالات إبداعية مشابهة، أو إذا ما فتحت معركة المرأة على آخرها داخل المجتمع.
بغض النظر عن إبداء الرأي النقدي الأدبي في طريقة المعالجة للكاتبة حديثة الخبرة، آنذاك، والتي لم تكن تتجاوز 18 عاماً عندما كتبت روايتها، ونشرتها وهي في سن الثالثة والعشرين، إلا أن الرواية التي ترجمت إلى نحو 40 لغة عالمية، كانت قنبلة مدوية، كشفت عن كل الملفات المضمرة في المجتمع وكسرت أقفال القمع الاجتماعي والتقليدي، حيث وضعت الرواية أبناء مجتمعها أمام ذاتهم بمنتهى الجفاء والوضوح.
إن سر انتشار الرواية بهذه الطريقة، جاء من كونها أبرزت فضح ممارسات الشباب السعودي مع الشابة السعودية، بكل جرأة، وهي تقدم مغامرة كبرى بإزاحة الستار عن عالم البنات الخفي، في مجتمع لا يقبل المرأة على هذا الشكل الإيروتيكي الصادم، فرغم أن حضور المرأة في الأدب السعودي، كما قلت، يعد حضوراً لافتاً وواضحاً، إلا أنه لم يخرج من منعطف التوازن الذي يرضي جميع الأطراف الفاعلة في المجتمع، الدينية منها والسياسية، غير أن رجاء الصانع لم ترعِ انتباهاً لكل هذا، وكتبت عن نفسها وعن بيئتها وصديقاتها من ذات خبيرة بواقعها، دون زيف أو تضليل.
إطلالة المرأة السعودية في الأعمال الروائية السعودية أكبر بكثير من حضورها في الحقيقة، فهي في الرواية قد لا تكون مهمشة ولا تكون غائبة أو منكسرة، بينما الواقع عكس ذلك تماماً، ليأتي العمل السردي عموماً وفي كثير من الأحيان غير مقنع ولا يمت للحقيقة بصلة، الأمر الذي تخطته رواية “بنات الرياض” بجرأة ونقلت واقع المرأة بمنتهى الأمانة، متحدية حراك المجتمع الذكوري في مطلقه، والذي يغلفه طابع ديني، سهّل إلى حد بعيد في تغييب هوية المرأة السعودية عن الحياة العامة بالكامل.
ومن خلال معرفتي بالمجتمع السعودي، توجد شريحة لا بأس بها تعي تماماً معاناة المرأة، في جميع تفاصيل الحياة، غير أن الأعمال الأدبية، ورغم أن المرأة تقحم في معظمها، لكنها مع الأسف، لم تدفع إلى صياغة حراك اجتماعي مدني نسوي فاعل، يستطيع أن ينتشل (نصف المجتمع) من واقعها الأليم، وأنا هنا لا أريد أن أتحدث عن بعض الأعمال الأدبية التي تعكس واقع المرأة بتبني فكرة المجتمع نفسه، والذي يريدها كائناً مكملاً في مجتمع ذكوري مطلق.
فالرواية السعودية، ورغم أنها وجدت في المرأة متنفساً جيداً لحياكة نسيج الحكاية، تمنحها هامشاً رحباً، على الورق، يتسع لفضاءات المرأة وشجونها وهمومها ومعاناتها، إلا أن هذه الفضاءات غير فاعلة على مستوى الحراك الواقعي الثقافي والمجتمعي، ولتفعيل هذا الحراك، لا بد من أن تعمل المرأة جاهدة على إثبات حضورها وتميزها في مجتمع يرى صوتها عورة، ويرى ذكر اسمها أمراً معيباً، أمامها معركة طويلة في ضرورة أن تعي دورها المطلوب منها، وتسعى بدون كلل دائماً باتجاه هدفها، فلا نريد أن تنتصر المرأة في الرواية وتخسر على أرض الواقع.
بالشراكة مع مجلة “سيدة سوريا”