نبال زيتونة
ضمن سلسلة شهادات سوريّة، صدر الكتاب الثالث عشر للكاتبة السوريّة وجدان ناصيف بعنوان “رسائل من سوريا” عن بيت المواطن للنشر والتوزيع.
على مدى مئةٍ وإحدى وخمسين صفحةً من الحجم المتوسط، توزّعت قصص السوريّات والسوريين معمّدةً بالدم والبارود والأشلاء والكيماوي. فقد بدأت وجدان كتابة رسائلها تلك كما تقول في مقدّمة كتابها، منذ آذار 2012، في محاولةٍ منها لكشف المستور، ولإلقاء الضوء على التطورات التي طرأت على المجتمع السوريّ خلال الثورة، فكانت شهاداتٍ شبهَ يوميّة، استمرّت على مدى عامين من عمر الثورة السوريّة، نُشرت بالفرنسيّة، ولم يخطر ببالها قطّ أن تُنشَر بالعربيّة.
ولعلّ بين الرسالتين الأولى في 13 آذار 2012، والأخيرة في 24 نيسان 2014، أي بعد عامين، رسالة ثالثة أرادتها وجدان أن تصل إلى العالم، الذي تفنّن في غضّ الطرف عمّا يحدث لنا نحن السوريين. بين الرسالتين كانت صورة الرئيس هي العامل المشترك، الصورة التي مُزِّقت من المنتصف تماما في 2012، في ساحة السبع بحرات، عُلِّقت في ساحة الأمويين بعد عامين، يوم إعلان بشار الأسد ترشحه لرئاسة الجمهورية، وما بين الرسالتين الكثير من آلام السوريين وعذاباتهم وموتهم.. أرادتها رسالة واضحة “السبب الوحيد لمأساتنا هو النظام!”
تقول وجدان في بواكير رسائلها المؤرّخة في 10 آذار 2012: “ها هو الشتاء يمضي، كان شتاءً طويلاً وقاسياً جداً، ربّما يكون أقسى الشتاءات التي مرّت على سوريا على الإطلاق”.
فأوّل ما يطالعك في هذا الكتاب لغةٌ سرديّةٌ بسيطة في ظاهرها، لكنّها لا تتوانى عن اختراق جوارحك كسكين أتقن لغة الوجع، كما السوريون أتقنوا فنّ الخوف والمعاناة على امتداد الجغرافيا ونصف قرنٍ من الزمان.. هي لغة التفاصيل التوثيقيّة التي تنقل بالحكاية والسرد والنقد والتحليل، تطوّرات الحالة السوريّة.
لغةٌ تحتفي بالتفاصيل مشحونة بمشاعر توهمك بالحياديّة، لكنّك سرعان ما تكذّب أوهامك، فهي الملتصقة بك كجلدك، لا تستطيع الخروج منها، يُضاف إليها الغوصُ في أوحال الحالة وتعقيداتها يوماً بعد يوم، ورسالةً بعد أخرى.
وفي إحدى رسائلها المؤرّخة في 15 آذار 2012، كتبت وجدان: “أينما نظرتِ اليوم في شوارع دمشق تطالعك الحواجز الأمنيّة والرجال المسلّحون بلباس مدنيّ وعسكريّ يقفون جنباً إلى جنب مع رجال الشرطة. يحملون بنادق مرعبة، ويضعون حول خصورهم جعباً فيها الكثير من الرصاص، ويتعاملون مع الناس بفظاظة. وكنت أقول لنفسي: حضّري نفسك للأسوأ، إنها الحرب، ولن ينقذني منها الآن إلا الكتابة”.
تراها تشحذ قلمها وتتأهّب لمواجهة الحرب. كما السوريّ يستحضر إرثه الإنسانيّ لمواجهة الهمجيّة والبربريّة الطارئة علينا نحن السوريين!
وها أنت تراها بقلمها الحرّ والموجع، محلّلةً حيناً، مفسّرةً حيناً آخر، ومتسائلةً أحيانا؟! لكنّه سؤال العارف يا وجدان، العارف والخائف في آن. وفي أحيان كثيرة هو نقل الواقع محفوفاً بخطورة التصديق، وهو البوح مشحوناً بقراءةٍ عميقةٍ للحالة الاستثنائيّة وتداعياتها وما يكتنفها من فوضى وارتداداتٍ وخلطٍ للمفاهيم على خلفية المجتمع السوريّ المحكوم زمناً بالخوف والقهر والاستبداد والتهميش!
هذا وكأنّ قلم وجدان استشعر الخطر الدوليّ على الثورة السوريّة، فسارع لسرد الحكايا والقصّ، لعلّ هذا العالم الوقح يرى ويسمع، هذا العالم الذي حضّر الكثير من الرؤى والعبارات والتصنيفات لوأد الثورة أو حرفها عن مسارها من ثورة شعبٍ ضدّ نظامٍ قمعيٍّ مستبدّ، إلى حربٍ أهليّةٍ واقتتالٍ طائفيّ وإرهابٍ وقاعدة… الخ
ولعلّ الحكاية التي اختارتها وجدان لنقل الصورة، تخاطب المشاعر والعقل معاً، فإن عجز أحدهما عن إيصال الفكرة، تكفّل الآخر بذلك.
تقول وجدان في إحدى رسائلها أيضاً: “من قال إنّ التطرّف مثل الفطر ينبت كيفما شاء المطر؟! التطرّف جذوره القمع والعنف والظلم والجوع وقلة الحيلة، وهذه متوفّرة بكثرة في سوريا الأسد”.
أمّا صوتُ المرأة، فكان حاضراً في رسائل وجدان، كما هو حاضرٌ في فكرها ووجدانها.
ترى هل تعمّدت الكاتبة ذلك؟ أم أنها افتعلته؟ من الرسالة الأولى تطالعك اللغة الرهيفة معلنة حضورها، من اختيار شكل الرسالة للتعبير ونقل الصورة، وما فيه من حميميّة التواصل الإنسانيّ، مروراً بتفاصيل قد يعجز الكاتب الرجل عن التقاطها، أو الاحتفاء بها، أو حتى بمواجهة الحرب بالكتابة.. وليس انتهاءً بقصص النساء المؤلمة والموجعة..
وأخيراً، ما عليك إلا أن تقرأ وتوازن بين ما رأت عيناك وما خفق به قلبك، وبين وما سُطّر في هذه الرسائل الاستثنائيّة.
خاص “شبكة المرأة السورية”