إعداد: جمانة علي
كل من تابع تغطية الصراع في سوريا والعراق سيدرك أن المنطقة شهدت أزمة اغتصاب كبرى. وقد ركزت معظم التغطيات الصحفية على العنف الفظيع الذي تعرضت له النساء والفتيات الإيزيديات اللاتي استطعن الهرب من أسر داعش، مع تفاصيل تصل إلى حد البذاءة بشأن أسواق الرق والزواج القسري، وتعدد حالات الاغتصاب. وهنا لا بد من التساؤل، برأي الكاتبة الباكستانية البريطانية سميرة شاقل، في مجلة نيو ستيتمان، البريطانية، عما إذا كانت التغطية قد أضرت بهذه القضية أكثر مما أفادتها.
نتائج عكسية
في العام الماضي، كتب مجموعة من الباحثين في صحيفة الواشنطن بوست بأن تلك التغطية الصحفية أحدثت نتائج عكسية. وقالت الصحيفة: “برأي باحثين في قضايا العنف الجنسي، ظهرت تلك الروايات الصحفية في ثلاث صور: فقد اتسمت بالانتقائية والإثارة، أو أنها افتقدت لفهم أعمق لأنماط العنف الجنسي في زمن الحرب، أو حفلت بافتراضات مزيفة حول أسباب الاغتصاب”.
قضية معقدة
وتشير سميرة شاقل في نيو ستيتمان إلى العنف الذي مورس ضد النساء الإيزيديات، وأنه بلا شك حالة مريعة، ومثال صارخ واستثنائي على العنف الجنسي. ولكن، برأي الكاتبة، ليس هذا هو مجمل الحكاية. فكما هو حال أية حرب، تتسم” أزمة الاغتصاب” بالتعقيد، بحيث لم تمارسه جهة بعينها. ففي سوريا، استخدمت القوات النظامية الاغتصاب كسلاح حربي منذ بدء الصراع في عام ٢٠١١. كما كانت التنظيمات الأسلامية والمتمردين مسؤولين عن بعض التجاوزات. ولطالما عانت النازحات جراء الصراع، والأرامل أو اللاتي تركن دون معيل، من الاستغلال وسوء المعاملة في معسكرات اللاجئين، أو في الدول المضيفة.
امتهان للكرامة
وتعترض ماندانا هينديسي، المديرة الإقليمية للمنظمات غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط، والنساء للنساء الدوليات، على الطريقة التي غالباً ما تم تصوير النساء من خلالها على أنهن ضحايا. تقول:”بالنسبة للإيزيديات بشكل خاص، شعرتُ بأن تجاربهن مليئة بالإثارة. ولم أقرأ في أي من التقارير الصحفية عن كيفية مقاومتهن. ولم يأت ذكر لمحاولتهن أخذ زمام الأمور بأيديهن. كما أن حقيقة هربهن عندما سنحت لهن الفرصة، تظهر مرونة لا تصدق. وقد عمدت بعض الأسيرات الإيزيديات لتشويه وجهوههن لكي يحمين أنفسهن من الرجال. كما حلقت أخريات حواجبهن ورموشهن. ولكن هؤلاء النسوة بدون من خلال وسائل الإعلام وكأنهن بلا أية قوة. وإن تجريدهن من قوتهن فيه امتهان لكرامتهن”.
تفاصيل صادمة
وقد ورد ضمن تقرير نشر مؤخراً في موقع ديلي بيست، بأن الصحفيات الغربيات اللاتي غطين العنف ضد الإيزيديات كن أحياناً متبلدات الشعور في بحثهن عن تفاصيل صادمة. وقد كتبت محامية حقوق الإنسان شيريزان مينوالا: “هل إرضاء الرأي العام في التعرف على تفاصيل العنف الجنسي أهم من حاجة أولئك الضحايا للأمان والخصوصية؟ لا أعتقد ذلك، وهناك مؤشرات على موافقة الضحايا على هذا الرأي”.
كما أشارت هينديسي لوجود خطر وصم النساء بصفة ما. فقد بات الرجال الإيزيديون عقبة أمام تقدم النساء. إنهم لا يسمحون للنساء بالذهاب إلى أي مكان خشية أن يتم اختطافهن مجدداً. وهناك يشعر جميع أفراد المجتمع وكأن عاراً كبيراً قد أصابهم”.
وتضيف هينديسي بأنه “للتغطية الصحفية للعنف الجنسي أهميتها الكبرى، وأن نقاشاً واسع النطاق يتم حالياً من أجل إحداث تحولات عملية كفيلة بحماية النساء. ولكن من المهم أيضاً أن تتم تلك التغطية بشكل مسؤول وبطريقة حساسة، وخاصة بالنظر للخزي والوصمة التي ترافق حوادث الاغتصاب.
وتقول هينديسي: “في معسكرات اللجوء تجرد الضحية من كرامتها الفردية، وتتعرض لجميع أشكال التحقيقات المهنية، من قبل أطباء ومحامين وصحفيين. وفي تلك الحالة تفقد النساء خصوصيتهن”.
وتنوه نيوستيتمان في تقريرها للحاجة لاتخاذ خطوات من أجل حماية النساء داخل معسكرات اللاجئين، وتقديم الدعم النفسي لضحايا العنف الجنسي، وتمكين النازحات إقتصادياً. ولكن ما لم يتم فهم الطبيعة المعقدة للمشكلة، لن يكون بالامكان وضع حلول ناجعة بعيدة الأثر.
الفتيات للترفيه
وقبل أيام، أعلنت الأمم المتحدة أن 214 فتاة من مجموع 234 تم إنقاذهن من جماعة بوكو حرام، وبعد فحص الأطباء تبين أن جميع هؤلاء الفتيات حوامل. وكانت الجماعة قد اختطفت 276 فتاة بين سن 12 و17 من منطقة شمال شرق نيجيريا في أبريل 2014، وأعلنت أنها ستستعمل الفتيات للترفيه عن عناصرها، وتبيع الفائض كسبايا حرب.
وتسلط هذه الجريمة الجماعية الأضواء على سلاح الاغتصاب الحاد والموجع، الذي تستخدمه الجماعات الإرهابية والمليشيات والقوات المسلحة خلال الصراعات، أو الحروب الأهلية، أو أثناء احتلال أرض الخصوم بهدف تدمير العدو جسدياً ومعنوياً وإذلاله وإجباره على الهرب والإذعان المهين، وصولا إلى الاستسلام النهائي. ويدخل تحت مصطلح الاغتصاب، أيام الصراعات المسلحة، العديد من التفرعات مثل الاستعباد الجنسي والإجبار على ممارسة البغاء والحمل القسري، وتعمد نقل الأمراض المعدية عن طريق الجنس، وتجنيد النساء للمتعة، كما فعلت اليابان بالنساء الكوريات أثناء الحرب العالمية الثانية، وكما تفعل بوكو حرام وتنظيم داعش هذه الأيام. وفي تقرير للأمين العام لمجلس الأمن الدولي حول الموضوع قال إن العنف الجنسي أصبح «ظاهرة متكررة» في الصراعات المسلحة. وقال إن هذا السلاح المدمر قد استخدم في 21 صراعاً مسلحاً، من بينها البوسنة والصومال ورواندا وكمبوديا وكولومبيا وغينيا وليبيريا وسيراليون وميانمار وليبيا وسوريا والصومال والسودان وأفغانستان.
الاغتصاب سلاح قديم جديد
دخل مصطلح الاغتصاب في زمن الصراعات المسلحة بشكل واسع أيام الحرب العالمية الثانية، حيث مارسته القوات الألمانية واليابانية ضد الشعوب المقهورة. لكن ممارسة الاغتصاب والسبي معروفة على مدى التاريخ. فقد كانت الغزوات والحروب فيما مضى لا تخضع لأية قاعدة أخلاقية أو قانونية. وقد عرف العرب قبل الإسلام خطف النساء من القبيلة المهزومة وأخذهن سبايا يوزعن على المنتصرين. جاء الإسلام لينظم قواعد الاشتباك، فمنع إلحاق الأذى في غير المحاربين من نساء وأطفال وشيوخ، ومنع هدم الأديرة والكنائس والمعابد والتماثيل والأبراج والآثار الحضارية. إلا أن ممارسة أخذ السبايا عادت من جديد أثناء الفتوحات الإسلامية، فانتشرت ظاهرة الإماء والغانيات والسبايا والجواري، خاصة أيام الدولة العباسية وحروب الأندلس.
وفي العصر الحديث لم تكن ظاهرة الاغتصاب تصنف جريمة حرب، فمحكمة «نورنبيرغ» لم توجه تهمة الاغتصاب للمعتقلين، رغم وجود شهود عيان أثبتوا ارتكاب الاغتصاب الجماعي من قبل النازيين. كما لم تدن محاكمات طوكيو الضباط الذي ارتكبوا مجزرة «نانجينغ» بالصين (1937) التي سميت «اغتصاب نانجينغ» حيث مورس الاغتصاب والقتل بطريقة مروعة لمدة ستة أسابيع متواصلة، خلَّف الغزاة وراءهم نحو ربع مليون قتيل.
وقد ورد ذكر الاغتصاب والاستعباد الجنسي في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 ضمن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. كما اعتبرت المحكمة الجنائية الخاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة ومثيلتها في رواندا، أن جريمة الاغتصاب تقع أيضا ضمن جريمة الإبادة الجماعية. وفي عام 1998، أقر في روما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002، والذي نص على أن جريمة الاغتصاب وأشكال العنف الجنسي الأخرى في زمن الصراعات المسلحة، تشكل جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية وجريمة إبادة جماعية. وبهذا الإقرار سدت كافة المنافذ التي كانت تعتبر الاغتصاب حالة فردية يحاكم عليها من يرتكبها فقط.
من أمن النظام إلى «داعش»
أما في الصراع السوري فقد استخدم سلاح الاغتصاب من قبل جميع الأطراف المتصارعة. فقد تم توثيق آلاف الحالات التي تعرضت فيها النساء للاغتصاب من رجال أمن النظام والميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. وقد أعلنت زينب حواء بانغورا، الممثلة الخاصة للأمين العام لمسألة العنف الجنسي، أن الاغتصاب في سوريا أصبح قوة تدفع السوريين إلى النـزوح خوفاً من الاغتصاب. وقالت في مؤتمر صحافي «إن االجرائم القائمة على الجنس تمارس من جانبي الصراع، لكن اللوم الأكبر يقع على عاتق الحكومة السورية التي لم تتمكن من توفير الأمن اللازم لمواطنيها». لكن الصورة الأبشع لاستخدام الاغتصاب وسيلة قهر وتحطيم لمعنويات الآخرين جاءت على يد «تنظيم الدولة الإسلامية» الذي سيطر على مساحات واسعة من سوريا والعراق. وقد أصدرت لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، التي يرأسها البرازيلي باولو بنيرو تقريرا في نوفمبر 2014 بعنوان «الحياة تحت إمرة داعش» يثير القشعريرة في البدن عند متابعة أقوال أكثر من 300 شهادة لضحايا التنظيم، تمكنوا من الفرار من المنطقة. لقد اتبع التنظيم سياسة التطهير العرقي حقيقة، خاصة ضد الأقليات العرقية والدينية كالشيعة والعلويين والأكراد والإيزيديين والمسيحيين والآشوريين. لقد استخدم سلاح الاغتصاب والسبي بطريقة بشعة لإبادة أقليات بشكل كامل. فقد تقاسم الجنود النساء الإيزيديات وباعوا بعضهن بالمزاد. «لقد أجبروا فتيات صغيرات في سن 13 سنة على الزواج من مقاتلي التنظيم. وقام التنظيم بانتهاك نساء وفتيات الإيزيديين حيث نقل بعضهن من العراق إلى سوريا للبيع في أسواق محافظة الرقة كسبايا حرب».
إنه حال الشعب العربي في الوقت الحاضر، حيث وجد نفسه، في عدة دول، يحارب الأنظمة والجماعات المسلحة في آن معاً. وعوضاً عن الانشغال في البناء والتنمية والتطوير واكتساب المعرفة، تنخرط مجمل أطياف المجتمع في حروب أهلية طاحنه لا تبقى ولا تذر، وتستخدم فيها جميع وسائل التدمير والفتك وقتل كل ما هو جميل في البلد الحبيب.
خاص “شبكة المرأة السورية”