نبال زيتونة
تشغل الخطابة حيّزا مهما بين الفنون النثريّة في أدبنا العربي، وتغطي مراحل مختلفة من تاريخنا الأدبي، وتؤلف إرثاً يصعب استبعاده من الساحة الفكرية.
فما الخطابة؟.. وما مدلولاتها وتجلياتها على خلفية اجتماعية فكرية؟ وكيف يكون الخطيب بسيكولوجيته وهيئته وأدواته رمزا من رموز السلطة؟
جاء في لسان العرب: الخِطابُ والمُخاطَبة: مراجعة الكلام. وعرّفها أبو إسحق إبراهيم بن السّريّ الزجّاج (ت 311 هـ)، بأنها الكلام المنثور المسجّع ونحوَهُ. {والخُطْبةوالخِطبة والمُخاطَبَة من الخِطاب والمُشاورة}.
وعرّفها الإمام محمد أبو زهرة في كتابه “الخطابة” بأنها صفةٌ راسخة في نفس المتكلّم، يقتدر بها على التصرّف في فنون القول، لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحملهم على ما يُراد منهم بترغيبهم وإقناعهم. فالخطابة مرماها التأثير في نفس السامع، ومخاطبة وجدانه، وإثارة إحساسه ليذعن للحكم إذعانا، ويسلّم به تسليما.
أمّا حنّا الفاخوري فقد عرّفها في كتابه “تاريخ الأدب العربي” بأنها فنُّ الإقناع واستمالة السامع ليعمل حسبما يدعو إليه الخطيب.
ذلك هو الباب الذي سنلجُ منه إلى دراسة الخطابة ودلالاتها اللغوية، والوقوف من خلالها على الإشكالية الحوارية على خلفية اجتماعيّة فكريّة، وصولاً إلى هيئة الخطيب والبواعث النفسيّة في شخصيّته، لإلقاء الضوء على التجليات الثقافيّة في سياقٍ تاريخيّ فيما يخصُّ هذا اللون من النثر الأدبيّ على اعتباره فنّاً قائماً بالفعل.
الخطابة فنُّ الإقناع:
بين المعنى اللغويّ والمعنى الاصطلاحيّ إشكاليّةٌ قائمة بالفعل: فهي لغويّاً مراجعة الكلام والمشاورة، أي إنّها تحتملُ الردَّ والنقضَ والتعديل، وتتسع لوجهات نظرٍ مختلفة. فمراجعة الكلام تعني إعادة النظر بصحته وقابليّته. وفي المُشاورة مساحةٌ شاغرة للرأي الآخر.
بالرجوع إلى تعريف الفاخوري وأبي زهرة، نجد أنّ الخطابة تقوم على هدف أساسيّ هو إقناع الآخر بوجهة نظر الخطيب، وليس هذا فحسب، بل يجعله يذعن للحكم إذعاناً ويسلّم به تسليماً.
بهذا المعنى يمتدّ الخطاب أحاديّ الجانب لينسحب على ساحة الفكر، فلا يترك متّسعا للآخر ولرأيه أو بدائله، مكرّساً بذلك مقولة القطب الواحد على خلفية سلفيّة.
يقول محمد أبو زهرة: يعمد الخطباء إلى تقريب الأمور التي يدعون إليها من نفوس الجماهير، ليأخذوها قضيّة مسلّمة، لا يناقشون فيها ولا ينظرون إليها نظرة فاحصة.
لاشكّ أنّها منظومة المسلّمات والبديهيّات، تتكاتف وتتعاضد لتعود إلينا في ثوب الخطابة، فتحفر في ذاكرتنا ثوابتها، وتبعدنا عن فضيلة الشكّ والتفكير والمحاكمة. ولا يتوانى الخطيب من أجل تحقيق غرضه، عن تحصين نفسه باللغة أوّلاً بما فيها من أساليب تعبيريّة وبلاغيّة، من حيث المعاني القويّة والألفاظ المتماسكة، وفنون الموسيقى الصوتيّة، وضروب التحبير والتحسين والسجع والبديع، ورفدها بسلامة النطق ووضوح الصوت والإشارات الملائمة لموضوع الخطبة. إذ يتمّ له استلاب الآخر لغويّاً.
ولا يقف الخطيب عند حدود اللغة والاستلاب اللغويّ، فيضيف إليه نفوذه واتّزانه وهيئته وجديّة ملامحه لتحريك الميول وإيقاظ المشاعر، ما يجعل الخطيب متحكّما بأهواء من يخاطبه ومشاعره.
يقول غوستاف لوبون: النفوذ سلطة أو عمل أو فكر، يستولي بها الخطيب على العقول، وتلك السلطة النفسيّة تعطِّل ملكة النقد.
فهذا الاستلاب النفسيّ من خلال النفوذ مهما كان نوعه، والاستلاب الاجتماعيّ من خلال سلطة الهيبة والوِقار، يصبّ في القناة ذاتها التي تسعى إليها السلطة الأبويّة من خلال أداتها “الخطيب” بجوانبها المختلفة، الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.
ويتمادى الخطيب في استلابه للآخر بلجوئه إلى إضافات مبتكرة خارجة عن نطاق اللغة والملامح الاجتماعيّة والنفسيّة. يلجأ إلى التحصّن بالعِمامة والعصا واعتلاء منبر الثقافة السلطويّة. بهذه الوسائل يتحقّق للخطيب ومَن وراءَه استلابَ الآخر ثقافيّا، فتنقاد الثقافة للخطيب، ليرى الآخر من منبره العالي المحصّن باللغة والسلطة والنفوذ، ويخاطبه واحداً في إطار الجماعة، دون النظر إلى فرديّته وتفرّده واختلافه. معتبراً منذ البداية بصحّة بدائله، ومشبعاً بمركزيّته، منطلقاً من قاعدة فكريّة منحازة ومقتنعة سلفاً بصحتها. وهو بذلك يبني خطاباً أعرجَ، يقوم على قائمةٍ واحدة، مستبعداً كلّ الأطراف الأخرى للتواصليّة الفكريّة والثقافيّة، متجاهلاً موقع الآخر، مهمِّشاً وعيَه وبدائله الواعية في مسألة ما تخصّ كيانه ووجوده.
ويشير أبو زهرة في كتابه سالف الذكر إلى كيفيّة وقفة الخطيب على منبر الخطابة العصيّ على العامة، والمرتفع عن مستوى الجماعة المعنيّة بالخطاب بقوله: “يجب على الخطيب أن يقف مستقيماً فلا انحناءَ ولا تقوّس، وعليه أن يبرز صدره إلى الأمام، ويعتمد على إحدى الرجلين إذا كانت الخطبة طويلة، ليستطيع تبديل إحدى الرجلين بالأخرى.. كما يجب عليه أن يقف في مكان واحد.
فكما اللغة يجب أن تكون قويّة متماسكة تستلب فكر الجماعة قبل سمعها، كذلك هيئة الخطيب ووقفته عليها أن تستلب نظر الجماعة ولبّها ووجدانها. فالانحناء والتقوّس من علامات الضعف والوهن، والخطابة بأدواتها تهدف إلى الاستلاب والإقناع وليس الاستجداء. إذ كيف يمكن لضعيف واهن أن يقدر على الإقناع. وبما أنّ الخطيب يتكئ على مقولة القطب الواحد، فنراه يترك ثقله على قائمة واحدة باستبعاد القائمة الأخرى، لكن دون إلغائها كي لا يحدث التشوّه في جسد الثقافة السلطويّة، وذلك تحسّباً من أيّ خلل قد يصيب الأولى، لأنّ هذا الخلل سيؤثر في عملية الإقناع تأثيراً سلبيّاً. فهو متحسّب ومتيقّظ لما يمكن أن يحدث من تغيير. فإن تغيّرت السلطة التي تقف وراءه، فلا ضير من تغيير القائمة التي يقف عليها بنقل ثقله إلى الأخرى من دون أزماتٍ تذكر. ولا يغيب عن بالنا أنّ الخلفيّة التي يستند إليها الخطيب هي ثقافة القطب الواحد، ولا شكّ أنّها في قرارتها تستشعر إرهاصات التغيير.
أمّا المكان الواحد الذي يشير إليه أبو زهرة، فلا يبتعد كثيراً عن مقولات الثوابت الفكريّة، التي تستند إليه السلطة، وتحرّك من خلالها الخطيب. فإذا تغيّر المكان اختلّت ثوابت الخطابة وفقدت واحداً من أهمّ مقوّماتها، وستتراجع عمليّة الإقناع وتتناقص أسهمها لدى الجماعة.
وفي حديثٍ لابن سينا عن “صناعة الخطابة” يقول: إنّها عظيمة النفع، لأنّ نوع الإنسان يعيش بالتشارك، والتشارك محوجٌ إلى التعامل والتحاور.
من معاني الخطابة إذاً التشارك والتعامل والتحاور، وهذا يصبُّ في المأزق ذاته الذي سبق ذكره. فالخطيب منذ البداية وباعتلائه منبر الخطابة، يفقد أولى إشارات التعامل والتشارك، ويصبح الملقّن والمعلّم وليس المحاور. لأنّ الأساس الذي سيقوم عليه الحوار غير متكافئ، وشخصيّة الخطيب انحازت منذ البداية لمقولات سلفيّة. ولا نُغفل هنا أنّ بعض الباحثين قصروا مصطلح “صناعة الخطابة” الذي تحدّث عنه ابن سينا في الحيّز الفلسفيّأو “التناظر”.
يقول غوستاف لوبون: على الخطيب أن يكون مسحوراً بالفكرة التي يدعو إليها حتى تستولي على نفسه استيلاءً لا يرى معه إلا ما كان منها، وأنّ كلّ ما خالفها وهمٌ وباطل.
فالخطيب هنا ليس محاوراً، ولا مشاركاً، إنّما أداةٌ مستلبة للسلطة الثقافيّة والاجتماعيّة ومنابرها ومعطياتها، ووظيفته استلاب الآخر. وقمّة الخطابة إذعان السامع لمقولة الخطيب والتسليم بها تسليماً.
اللوحة للفنان العالمي “بيكاسو”
خاص “شبكة المرأة السورية”