رماح كلول
-1-
إنها امرأة رائعة بكل ما تعنيها الكلمة من معنى، بعطائها وحبها،بحنانها وإخلاصها وجمالها أيضاً،لديها من العمر 22 عاماً، توفي والدها وهي ابنة شهرين،وربتها أمها مع إخوتها الأربعة. كانت تعمل في أحد المعامل، لكنها اضطرت للتوقف عن العمل بعد إصابتها بالديسك في ظهرها، وشاركت جارتها على متجر صغير في نفس الحي الذي تسكن فيه، تيبعان فيه مواد التجميل والجوارب والألبسة الداخلية.
تعلمت مها من والدتها العطاء دون مقابل، والحب بلا حدود.
جاء العم وراح يفرض على العائلة آراءه ورغبته في تزويج بنات أخيه لأبناء عمومتهم.تزوجت مها ابن عمها الذي لم يسبق لها أن رأته في حياتها إلاّ بعد الخطبة، كان عمرها في ذلك الوقت 16 سنة، كانت في الصف العاشر فيما كانت أختها تحضر للشهادة الثانوية، لكن العم منعهما من متابعة الدراسة، وتم تزويج الأختين لأخوين، في يوم واحد.
لم تعرف مها أن زوجها يعاني مرض السكري،راحت تتعلم كيف تعطيه حقنة الأنسولين، وكيف تحسب كمية السكر التي يجب أن يأخذها يومياً،وصارت تشرب الشاي والقهوة بدون سكر، مراعاة له، كما أنها امتنعت عن شراء أي نوع من الحلويات أو المربيات تجنباً لمضايقته.
كان يتعب بسرعة، ولا يستطيع الذهاب إلى العمل في المتجر الذي يملكه والده،وحين يغيب عن العمل يحرم من أجره، فقد كان والده قاسياً من هذه الناحية، لايراعي وضع ابنه الصحي الخاص.
لم تتوقف المشكلة على عدم أخذ النقود، بل تعدت ذلك إلى قيامه بضربها وتحميلها مسؤوليةوضعه، وعدم قدرته على الذهاب إلى العمل.
كانت تذهب إلى والدتها شاكية لها مايحدث، فلا تملك أمها إلا أن تهدئها وتطيب خاطرها، وتزورها كل مساء حاملة لها ما تيسر من لوازم المنزل،تشتري لصهرهارصيداً لهاتفه المحمول، وتضع في يد حفيدها الصغير 500 ليرة سورية، وتعود لمنزلها.
في أحد الصباحات باغتهم برميل، دمرالحي والأبنية، وقتل معظم السكان، الوالدة وعائلة أخيها، عائلة زوجها وزوج أختها والجيران…
زوجها اختفى تحت الأنقاض، ولم يجدوا له أي أثر.
حملت ابن أخيها الذي بترت قدمه،أخذت ابنها وجاءت إلى تركيا، عالجت قدم الطفل في أحد المستشفيات التركية، وتوجهت للسكن في مكان كان يُستخدم كمستودع (صالة كبيرة مع حمام ومغسلة)، أسكنها فيه رجل تركي.
بدأت تبحث عن عمل دون جدوى، فهي لا تحمل شهادة ولا تتقن حرفة أو مهنة. فكرت أن تستفيد من اللغة التركية التي تستطيع التحدث بها كون والدتها التركمانية قد علمتهم إياها.
وجدت عملاً في متجر قريب لبيع الألبسة، وعملت كمترجمة لمن لا يستطيع التحدث باللغة التركية، مقابل أجر بسيط. الكثير من السوريين يفضلون الشراء من هذا المتجر لوجود سيدة سورية تستطيع التفاهم معهم.
صاحبة المتجر التركية كانت سعيدة وممتنة من مها، فعرضت عليها منزلاً صغيراًقريباً من المتجر، لتسكن فيه مع الصغيرين.
الطفلان أصبحا يتحدثان اللغة التركية والعربية،عندما رأيتهما لأول مرة سألا مها: كيف نتحدث معها بالتركية أم بالعربية؟
أخبرتني لاحقاً أن شاباً تركياً طلبها للزواج، وأنها رفضت، قائلة: “أريد أن أربي أولادي وأعلمهما أحسن تعليم، أردي أن يعودا لإعمار بلدنا الغالي سوريا”.
-2-
حاولت مراراً أن أخفي مشاعري وأمنع الدموع منفضح حقيقة ما أشعر به،
لكن روحي تخذلني دائماً، وتنطلق الأحاسيس لمعانقة الدمع…
بلى.. إنه هو.. ابن بطني وفلذة كبدي، هذه ملابسه، وهذا هو بنطال الجينز الذي اشتراه من المحل التركي في نيزيب، هذا أيضاً قميص أخيه الذي أصبح عاجزاً بعد إصابته بشظية في ظهره، وما عاد ارتداه.
أستعيد المشهد كلما رغبت بتصديق ما حدث له، إنه هو.. نعم هو..
تعلق الكلمات في حلقها وتنهمر دموعها فوق خدين متعبتين.
تتابع: “صورة قاتله تشبه شيئاً خيالياً ليس موجوداً في حياتنا، كائنات غريبة اللباس، بلحى طويلة وشعر كثيف أشعث، لا أعرف من أي زمان أو مكان أتى هذا الزي.
“ولدي”… سكتت برهة، مسحت دموعها لتتابع الحديث: “لم يقاوم السكين، كان مستسلماً، رأيتُ شفتيه تتحركان، شعرت به ينطق بالشهادتين، لكن القاتل لم ينتظره حتى يكملهما، بل همّ بذبحه دون رح….م….ة”.
ضاع الصوت فيما غمرها الألم، وددت أن أصرخ عنها، أن أقول كلمة لأخفف عنها، لكني عجزت تماماً.
وحدها يدي أسعفتني حين راحت دون وعي مني تربت على كتفها في محاولة عابثة لتهدئتها، فيما صمتٌ يسود أرجاء الغرفة لدقائق.
رفعت رأسها ومسحت وجهها مجدداً، وهي تقول: “الله ينتقم ممن كان السبب في ذلك”.
وتابعت: “والله لو عادت الأيام إلى الوراء لما فعلت إلا ما فعلته حين دفعت بأولادي وشجعتهم على الوقوف ضد الظلم… كنت أعرف أن الثمن سيكون باهظاً، لكن لابأس،الأرض هي الشرف والعرض وتستحق كل ما نقوم به”.
-3-
الأمل الذي لمع في عينيها كان كافياً لأشعر بكم العزيمة والرغبة في التغيير، ابنة العشرين ربيعاً، العشرين أملاً.
أخبرتني عن رغبتها في متابعة تعليمها، وأن وضعها الصحي لا يسمح لها،كونها تعاني من شلل الأطفال، إضافة إلى الوضع المادي السيء بسبب تركهم لكل أملاكهم في حلب قبل التوجهإلى تركيا، التي لا يملكون فيها سوى أجسادهم وأرواحهم.
أنهت دراستها الثانوية،وحصلت على شهادة الفرع الأدبي،لكن لا فرص للتعليم أو للعمل في هذه البلدة الصغيرة. في أحد الأيام تمت دعوة عائلتها من قبل جارتهم التركية لحضور حلقة قراءة قرآن، ذهبت مع والدتها وشقيقتها،فطلبوا منها أولاً قراءة الفاتحة لأنها تعرف اللغة العربية وتستطيع لفظ الأحرف بشكل جيد. لم تنم ليلتها، وهي تفكر كيف ستستفيد من إمكانياتها، وقبل أن تشرق الشمس كانت الفكرة قد أشرقت في رأسها.
أخبرت والدتها بالفكرة فأعجبتها وشجعتها، لكنها كانت خائفة من ردة فعل الجيران الأتراك.
ولكسر الخوف قامت بزيارة اثنتين من الجارات الأتراك، وأخبرتهما أنها ترغب بتعليم قراءة القرآن للأطفال الأتراك، لقاء ليرة تركية واحدة للدرس عن كل طفل.
في البداية جاء أربعة أطفال، ثم بدأ العدد بالتزايد حتى أصبح لديها أربعة جلسات يومياً، يحضر كل جلسة ثمانية إلى عشرة أطفال.
المبلغ كان جيداً، فهي لا تخرج من المنزل، ولا تضطر لأية مصاريف، لذا كان مشروعاً ناجحاً بامتياز.