أمينة بريمكو
أجبرتهم الظروف على التوقف عن اللعب فتخلوا عن طفولتهم سعياً وراء لقمة العيش. مارسوا أعمال الكبار بشروط السوق، وتعرضوا للعنف والقمع حتى أصبحوا بحق أطفال شقاء وحرمان. هم الذين هجروا طفولتهم نتيجة ظروف أسرية صعبة فتسربوا من المدارس وانطلقوا نحو ورش الخياطة والنجارة و مصانع الأحذية وإصلاح السيارات، حيث لا أحد يرحم طفولتهم أو يشفق عليهم، ولا بد أن يدفع الطفل من كرامته وحريته وأدميته الكثير مقابل مبلغ ضئيل من المال.
وعلى الرغم من مدى قسوة ظاهرة العمالة وتزايد أعداد الأطفال المتضررين منها، إلا أنه لا يوجد حتى الآن أي إحصائيات دقيقة عن أعداد الأطفال العاملين؛ ويرجع هذا القصور إلى عدم وجود تعريف موحد للظاهرة. فيرى البعض أن التحديد يقتصر على من يعمل من الأطفال نظير أجر، بينما يرى البعض الآخر أنه يشمل من يعمل داخل نطاق الأسرة بدون أجر.
وترتبط ظاهرة عمالة الأطفال وجوداً وعدماً بدرجة تقدم المجتمع وتخلفه، وتبدو أكثر انتشاراً في دول العالم الثالث على وجه الخصوص، كما تختفي باختفاء المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وبمدى احترام ذلك المجتمع للتشريعات والقوانين المنظمة له.
وقد أشارت بعض التقارير الدولية إلى وجود هذه الظاهرة بكثافة في قارة آسيا يليها قارة أفريقيا اللاتينية. بينما تشير هذه التقارير إلى أن بعض المناطق تكاد تخلو من هذه الظاهرة ، مثل أوروبا و أمريكا الشمالية واستراليا، كما لا يوجد لها وجود على الإطلاق في مناطق أخرى من العالم مثل اليابان والصين. إلا أنه يجب النظر بحذر إلى الإحصائيات التي تتعرض لمثل هذه الظاهرة، نظراً لعدم توحيد أسلوب الإحصاء المستخدم على مستوى العالم، فالإحصاءات تختلف فيما بينها من حيث بداية المرحلة العمرية فبعض الدول تبدأ إحصاءها من مرحلة الست سنوات والبعض الآخر يبدأها من سبع سنوات أو ثماني سنوات، كما تختلف أيضاً في المرحلة التي تنتهي عندها ذلك الإحصاء، فينتهي أحياناً عند اثني عشرة عاماً أو خمس عشرة عاماً.
الخلفية الأسرية للأطفال العاملين:
لخصائص الأسرة أثر في تشكيل حياة الطفل، وفي تحديد مسار حياته ومن خلال التنشئة الاجتماعية، تقوم الأسرة بدور أساسي في تكوين شخصية الطفل، وفي إكسابه قيم وعادات وتقاليد لها تأثيرها في توجهاته نحو مختلف جوانب الحياة.
- لذا سنستعرض فيما يلي الخصائص التي تتميز بها أسرهم:
- تركيب الأسرة:
الأسرة تنقسم إلى فئتين- أسرة تراوح عدد أفرادها ما بين فردين وستة عشر فرداً تضم فيها أقارب الزوج أو الزوجة، وأسرة يتراوح عدد أفرادها ما بين 5 إلى 6 أفراد ويرتفع نسبياً عدد الأبناء بين هذه الأسر.
2-المستوى المهني للآباء:
وخبراتهم المكتسبة، تؤثر إلى حد كبيرة في توجهات الأبناء وفي مسارات حياتهم، فمن هؤلاء الآباء العمال اليدويين وعمال الخدمات والباعة والمزارع الصغيرة، ومفاد ذلك أن أرباب هذه الأسر ينتمون إلى الفئات الدنيا، وقد كان لهذه الخلفية تأثير واضح في مستقبل الأطفال.
3- المستوى التعليمي لأفراد الأسرة:
علينا ألا نغفل أثر تدني مستوى تعليم الآباء في اتجاههم نحو تعليم أبنائهم. وعلى وجه الخصوص، عندما يتعثر الأبناء في مراحل التعليم الأولى، عندئذ يتأثر الآباء بخبراتهم الذاتية ويتجهون إلى إلحاق الأبناء بسوق العمل، لكي يتعلمون حرفة مماثلة لحرفهم أو تقاربها في المستوى.
4-المستوى الاقتصادي للأسرة:
نظراً للصعوبات التي تواجه دراسة المستوى الاقتصادي للأسرة، وعلى وجه الخصوص في مجال الداخل، فهناك بعض المؤشرات التي يمكن الاستعانة بها لمعرفة ذلك المستوى منها:
- الملكية: تكون محدودة جداً تتمثل في منزل صغير شبه ريفي، أو بضعة قراريط من الأرض الزراعية يزرعها بعض أفراد الأسرة وعدداً ضئيلاً من الماشية.
- دخل الأسرة: فمن الملاحظ أنه يصعب معرفته من خلال الأطفال لجهلهم به.
- المسكن: إن معظم المساكن تكون مؤجرة وبعضهم يقيم في مساكن إيواء مؤقتة، وان حجم المسكن صغير بالنسبة لعدد أفراد الأسرة وقد تصل إلى حجرة واحدة لأسرة يتراوح عددها ما بين 4الى 6 أفراد.
- مشكلات الأسرة: هناك مشاكل أسرية يعاني منها الأطفال وأغلبها تكون ذات طابع اقتصادي،أي ترتبط بمواجهة إنفاق الأسرة ثم مشكلات مرتبطة بالعمل وأخيراً تلك التي تنشأ عن المرض.
الأسباب الحقيقية وراء ظاهرة عمالة الأطفال:
تتعدد الأسباب وتتشعب، ولكنها متداخلة ومتشابكة ومترابطة فيما بينها، مما يجعل المشكلة صعبة الحل، فعمالة الطفل في وجودها من حيث الانتشار لوجود أسباب كثيرة منها الفقر والجهل والتكافل الاجتماعية وعلاقة البيت بالمدرسة وغيرها من العوامل.
أولاُ- الفقر:
هذا السبب من الأسباب التي تتعلق بدول العالم النامية، حيث أن العائلات بحاجة ماسة إلى الدخل والدعم الذي يوفره عمل الأطفال، ففي بعض الأحيان يكون اجر الطفل بمثابة المصدر الوحيد، أو الأساسي للدخل الذي يكفل إعالة الوالدين أو أحداهما ويوفر الاحتياجات الأساسية التي يعجز الكبار عن توفيرها؛ خاصة الأطفال الذين يفقدون الوالد ويعيشون في كنف أمهاتهم من الأرامل والمطلقات.
- وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة بين البالغين وخاصة في الأعمال والصناعات والحرف التي لا تتطلب تأهيلاً محدداً أو جهداً خاصاً من قبل العامل.
ثانياً مشاكل الدراسة:
تعد من الأسباب الهامة التي تسهم في دخول الطفل سوق العمل ومن المشاكل التي تواجهه:
- سوء التكيف الاجتماعي: أي عدم مقدرة الطالب على التكيف مع المجتمع المحيط به. ولا يكفي على احد ما يحتاجه الطفل من حب وتقدير وغيرها من الاحتياجات.
- التأخر الدراسي: أي عدم مقدرة الطالب للوصول إلى المرحلة التي وصل إليها من هم في نفس المرحلة والعمر والفصل وأسبابها: الضعف العقلي والعضوي، الجو العائلي المشحون بالفوضى، ضعف المستوى الاقتصادي للأسرة وعدم التفات العائلة إلى ما يعانيه أبناؤها في الدراسة.
3-التغيب والهروب من المدرسة: (ظاهرة التسرب من المدرسة ):
- هناك آراء تفسير ظاهرة التسرب إلى إسنادها لقلة وعي الآباء لقيمة التعليم، وانخفاض مستوى تعليمهم وقد يبدو هذا التبرير منطقياً، وذلك إذا نظر إلى الظاهرة نظرة مجردة وبعيدة عن إطار الظروف والواقع الاجتماعي بهذه الفئة الاجتماعية. غير أن التحليل في رأينا يجب أن يذهب إلى أبعد وأعمق من ذلك ونرى أن هناك أمور هامة تدعو للـتأمل مثل عملية الالتحاق بالتعليم.
- لوحظ أن الغالبية العظمى من الآباء قد رغبوا في تعليم أبنائهم وإلحاقهم بالتعليم بالفعل، ولكن هناك دواع تالية للالتحاق أسهمت في تسرب الأطفال وفقاً للأسباب التالية:(كراهية الطفل للمدرسة، الفشل وعدم الرغبة في التعليم وضعف في الفهم والإدراك، ضرب المدرسين، سوء المعاملة في المدرسة وعدم اجتذابها للتلاميذ، عدم تكيف الطفل مع زملائه وتأثره بصحبة السوء).
- وهناك أسباب اقتصادية ساعدت عل عملية التسرب منها: أعباء نفقات التعليم حيث أنها تمثل عبئاً كبيراً على الأسرة مثال “الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية، الكتب والأدوات المدرسية، مصاريف بعض الأنشطة المدرسية، الملابس وغيرها”
ثالثاً الجهل:
- للجهل دور في وجود عمالة الأطفال لا يقل عن دور الفقر فأكثر الأطفال العاملين في المناطق الفقيرة في مدينة حلب حيث ينتشر الجهل وانعدام الاهتمام بالمدارس والأساليب والوسائل التعليمية.
رابعاً غياب الضبط الاجتماعي:
- أي انعدام آلاليات التي تنقل القرارات الدولية والإقليمية في سطور الأوراق إلى حيز التنفيذ، وهذا ما يؤدي إلى الانفلات الحاصل في كثير من القضايا الاجتماعية ومناهضة عمالة الأطفال، التي بدأت تشغل الرأي العام العالمي، لما تشكله من صورة مأساوية لملايين من الأطفال. ومع ذلك هذا يغيب الضبط الاجتماعي، والتحرك الفعلي من قبل الدول والمجتمعات، للحد من هذه المشكلة وحماية الطفل من المجرمين.
- فعندما يغيب العقاب الذي تفرضه المجتمعات تزداد جرائم هؤلاء المجرمين في حق الطفل وبالتالي في حق الإنسانية.
- كما أن المستوى التعليمي للوالدين يؤثر بشكل كبير على توجهات الأبناء، وكذلك هجرة رب الأسرة للعمل خارج البلاد وللبحث عن مصدر رزق، وضعف الجدوى الاقتصادية للتعليم، وضعف الأجور للعاملين في قطاع الدولة، كلها تعد أسباباً اجتماعية لها دورها السلبي في انتشار هذه الظاهرة.
- خامساً العوامل السكانية:
- يسعى البعض إلى الربط بين عمالة الأطفال وبعض الظواهر السكانية مثل ارتفاع معدلات الإنجاب والهجرة من الريف إلى المدن، كما أن زيادة عدد أفراد الأسرة يؤدي إلى تدني متوسط الدخل وهذا بدوره يسهم في انتشار هذه الظاهرة، حيث تشير الدراسات إن متوسط دخل الأسرة يبلغ (3000) ليرة سورية شهرياً، مما يدفع الطفل للعمل ليساهم بحوالي 1000ليرة سورية شهريا هو وإخوته. كما تزداد المشكلة تعقيدا إذا وجد مريض داخل الأسرة.
- سادساً انخفاض المستوى التكنولوجي:
- قد يكون هناك ارتباط بعض الشيء بين عمالة الأطفال وبين انخفاض المستوى التكنولوجي في القطاعين الزراعي والصناعي، فضلاً عن انخفاض أجور الأطفال وكفاءتهم في أداء بعض الأعمال مثل جمع القطن والأعمال المساعدة في الورش الصناعية، ومما لا شك فيه أن هذه الطائفة من العوامل التي تسهم بالفعل في إيجاد البيئة الاجتماعية والاقتصادية الميسرة لظهور ولدعم ظاهرة عمالة الأطفال, إلا أن هذه العوامل في مجملها لا تعدو أن تكون من عوامل جذب، ولا يصح بالتالي اعتبارها عوامل أساسية تؤدي إلى إحداث الظاهرة، إلا أنه لوحظ أن الأسباب المنتجة لهذه الظاهرة والمؤدية إلى إحداثها، إما أن تكون عوامل تعليمية أو عوامل ذات طابع اقتصادي. وأكثر الأسباب تأثيراً في الظاهرة هي الأسباب المتصلة بالجانب التعليمي، وعلى وجه التحديد الفشل في التعليم ويليه الرغبة في تعلم صنعة كبديل للتعليم، ويلي هذين السببين رغبة الطفل في الحصول مال ينفقه على متطلبات الشخصية.
كما هناك بعض الأسباب الفرعية مثل: العمل أفضل من اللعب في الشارع، أو عدم الرغبة في الجلوس بالمنزل، أو بسبب وفاة احد الوالدين، أو الرغبة في التجهيز للزواج “بالنسبة للفتيات” أو أن الأهل أرادوا ذلك.
في النهاية، ومع التسليم بأن عمالة الأطفال تعتبر ظاهرة خطيرة في حد ذاتها، إلا أنها في الوقت ذاته تفجر قضايا متعددة تقترن بها لا تقل عنها خطورة. فالأمر يدعو إلى رؤية شاملة ينبغي التصدي لها من خلال سياسات اجتماعية تهتم بمصالح الفئات الدنيا في المجتمع.
خاص “شبكة المرأة السورية”