وجدان ناصيف*
كل غضب العالم اجتمع في رأسي عندما سمعتها تقول للسائق: “توقف عند أول حاجز وأنا “بورجيها”!
أصبحوا يهددوننا بالحواجز. لم يعودوا يذكرون الشرطة حتى! الجندي على الحاجز أصبح كل الدولة وكل أركانها.
كان من الممكن أن تبقى “خناقة عادية” وتنتهي بالاعتذار. لكن الأمر لم ينته هكذا اليوم. قامت الصبية بإزاحة حقيبتي التي كنت قد حجزت بها مقعداً في “السرفيس” من خلال النافذة، وبعدها صرخت في وجهي بأن لا حق لي بحجز المقعد بالحقيبة!
“مظبوط يا بنتي، معك حق … بس هالمرة الله يرضى عليكي… سامحيني وعطيني المقعد لأني تعبانه”، قلت لها. عملوا لي عمل جراحي في ظهري والطبيب المعالج ارتكب خطأً. ذهبت لعيادته قالوا إنه سافر الى أوربا مع عائلته. عدت الى الطبيب الآخر في المستشفى، شاب جلف وصعب المزاج، أجابني بعد انتظار ثلاث ساعات بأنها ليست مشكلته، وإن كان هناك خطأ في العملية فتلك مشكلة الطبيب الجراح.
أنت تعرفين يا “بنتي” أنه لم يعد هناك أطباء في دمشق. رحلوا تقريباً جميعهم ومن بقي يعمل في المشافي الحكومية يصبّ علينا جامَ غضبه كل مرة مذكراً إيانا بأنه بقي هنا لأجلنا ولأجل الوطن.
يا “بنتي” الحياة صعبة، وأنا تعبانه، واستئجار سيارة يكلفني ألف ليرة كل مرة.
كانت الصبية تجلس في الكرسي الذي من المفترض أنّي حجزته قبلها بالحقيبة، وكانت تدير وجهها باتجاه النافذة دلالة على عدم الرغبة في الاستماع. وأنا كنت أسند باب “السرفيس” بكتفي دلالة على إصراري على أخذ مكاني الذي احتلته هي. وكان الركّاب الآخرون يديرون وجوههم صامتين وغير راغبين بالتدخل لحلّ المشكلة لكنهم كانوا يردّدون بين الفينة والأخرى :” يالله خلصونا” … “حلوها وخلونا نمشي”!
معهم كل الحق فأحلامنا كلها اختزلت اليوم في حلم الحصول على مقعد في “سرفيس” وكانوا جميعاً محظوظين اليوم على الأقل.
” يا بنتي لو أن “حمودة” لا زال حيّاً لما قبل أن “أتبهدل” هكذا في الطرقات وبين المشافي وعيادة الأطباء. كنت اتصلت به ، حموده (يامو)! أنا خلّصت وصرت تحت جسر الرئيس… الله يجبرك (يامو) تعال خذني!
وكان حموده سيأتي مسرعاً كالعادة في سيارته الجديدة. لكنهم اعتقلوا حموده واعتقلوا معه السيارة، قتلوه وقالوا لي انسي السيارة. بتعرفي يا بنتي إنه الشركة بقيت تطالبنا بأقساط السيارة. قلت لهم آخر مرة أنها موجودة مع أحد “الشبيحة”، ذكرت لهم اسمه وعنوانه، قال لي الرجل عبر الهاتف :” خلص أختي … الله يسامحكن ويغفر لابنك”.
لكن يبدو أن قصة ابني والسيارة لم تعجب الفتاة فنهرتني قائلة: “اسكتي ..اسكتي .. لن أقوم من مكاني حتى لو دفنتي عائلتك كلها!
يجب أن أقول لك أنّي وأنا أستعرض حكايتي أمامها كانت تعود لي الصور والذكريات وكان ضغطي يرتفع مع حديثي عنها ويرتفع معه غضبي، وكانت قدماي قد تورمتا من الوقوف ويداي تعبتا من اسناد باب “السرفيس” الثقيل كي لا يمضي بدوني. وكانت الفتاة هناك مثل تمثال لا تنظر الي إلا لكي تنهرني. كانت برودتها قاتلة. لكن جملتها الأخيرة كانت دعوة لي لكي أكفّ عن الكلام وأتصرف. غضبي حولني الى مراهقة في لحظات. نسيت آلامي كلها وقفزت الى حيث تجلس وجلست فوقها، لو أني كنت أشاهد نفسي وأنا أفعل ذلك لما صدقت. كلما تذكرت ذلك المشهد ” بفرط من الضحك “..بعدها فكرت بالاعتذار منها والنزول من السرفيس، خاصة عندما احسست بإلتواء عظامها تحتي. لكنها ولسوء حظها رفعت رأسها وسوت (إيشاربها) ونادت بالسائق : “توقف عند أول حاجز … رح ورجي هالمخبولة من أنا”!
و”رحمة” حموده أنا لا أحب العنف وكنت أقول دائما لشباب الحي ” الله يرحمهن جميعاً، يامو العنف ما بيحل المشكلة ولا بيخلينا ننتصر. نحنا لازم نحاربهن بأخلاقنا العالية وبإيماننا بالثورة… الله يرحمهن ويسامحهن”.
لكن هذه الفتاة ذكرتني بأولئك الذي أخرجوا من أبناءنا كل العفاريت. جملتها تلك أخرجت مني كل عفاريت الشرّ. نعم، انهلت عليها بالضرب … ضربتها كأني أضربهم جميعاً، الطبيب الجراح وطبيب المشفى والشبيح سارق السيارة، والمختار الذي أحضر لي ورقة من قيادة الشرطة العسكرية ذكر فيها أن ولدي أصبح “المعتقل المتوفى “. تجمّع الركاب لتخليصها من بين يديّ وأنا كنت لا أتوقف ومع كل صفعة كنت أردّد : “الحاجز يا بنت الكلب؟ تشتكينني للأوغاد يا بنت الكلب؟ “
أحسست لحظتها أنيّ عدت شابة أكثر منها. كنت قوية جداً وكأن كل آلامي قد تلاشت دفعة واحدة. لكن ما أن توقف “السرفيس” وترجل السائق لحلّ المشكلة حتى ترآى لي وجه حموده. كان يختبئ عند زاوية المتحف الوطني وكان يضحك كما كان يفعل في صغره عندما كنت أهدده بالضرب فتوقفت عن ضربها وصرت أضحك، لكنه لم يركض اليّ هذه المرة مثلما كان يفعل حينما يتأكد من أنّ قواي انهارت تماماً من الضحك. بل غاب حموده في البعيد وبقي صوته يرن تحت جسر الرئيس:”يامو… يامو . تأخرتي … صار لي ساعة ناطرك لوصلك عالبيت!”
* اللوحة للتشكيلي السوري “لؤي كيالي” بعنوان “ثم ماذا؟”
* كاتبة سورية مقيمة في باريس
خاص “شبكة المرأة السورية”